الطب > مقالات طبية
صِحَّةُ جهازِنا العَصَبيِّ تَتأثَّرُ بوضعِنا الاجتماعي !! الفَقرُ كمشكلَةٍ صحّيَّة !!
كانَ ومازالَ الفَقرُ مشكلةً اجتماعيَّةً تجتاحُ العالَمَ بأسرهِ، وفي ظُروفِ الحَربِ التي تَعيشُها سُوريا وكثيرٌ من البلدانِ حولَ العالَمِ أصبحتِ الكثيرُ مِنَ العائلاتِ تُعانِي مِن تدنٍّ شديدٍ في المستوى الاجتماعيِّ و الاقتصاديّ وأطفالُها يرزَحُونَ تحتَ وطأةِ صِراعٍ لا ذنبَ لهم فيهِ، وهم يعانونَ مِنَ التشرُّدِ والفقرِ والحرمانِ بكلِّ أشكالِهِ. وممَّا لا شكَّ فيهِ أنَّ لتلكَ الظُّروفِ تأثيراتٌ نفسيَّةٌ وعاطفيَّةٌ واجتماعيَّةٌ لا حصرَ لها.
إلَّا أنَّهُ ومنذُ سنواتٍ بدأت دراساتٌ عالميَّةٌ تُظهرُ تَداخُلَ وتأثيرَ البيئةِ الاجتماعيَّةِ في التَّطَوُّرِ العصبيِّ السَّويِّ عندَ الأطفالِ، ومقالُنا اليوم يتناولُ دراسةً نُشِرَت في المَجلَّةِ العالميَّةِ للدِّراساتِ الوبائيَّةِ "The International Journal of Epidemiology “ أظهَرَت أنَّ الأطفالَ الذين ينتمونَ إلى عائلاتٍ ذاتِ وضعٍ اجتماعيٍّ اقتصاديٍّ متدنٍّ لديهم خطورةٌ وقابليةٌ أعلى لتطوُّرِ علاماتِ خلَلٍ عصبيٍّ واضحةٍ مقارنةً بأقرانِهم ذَوي الخَلفيَّةِ الأكثرِ ثراءً. والأسوأ مِن ذلكَ وِفقاً للدِّراسةِ، أنَّ تلكَ الفروقاتِ الوظيفيَّة بينَ مجموعتي الأطفالِ وإنْ كانَت صغيرةً في البدايةِ، فإنّها تميلُ إلى الازديادِ مع تَقدُّمِ العمرِ وهذا مَا يَجعَلُ الأطفالَ الأكثرَ فَقراً هُم الأكثرُ عُرضةً في المُستَقبَلِ لِمُواجَهةِ صُعوباتٍ تَعليميِّة واضطراباتٍ في صِحَّتِهمُ النَّفسيَّة.
امتدَّتِ الدِّراسةُ ما بينَ عامي 1959-1974 ، شَمِلَتْ 42 ألفَ سيِّدةٍ حاملٍ و تمَّت متابعةُ أكثرَ مِن 50 ألفَ مولودٍ و قَد تمَّ تحليلُ بياناتِ 36443 طِفلٍ مُشاركٍ، حيثُ خضَعَ هؤلاءِ لفحوصاتٍ عصبيَّةٍ دقيقةٍ في مراحِلَ عمريّة مختَلِفَة ( عند الولادةِ، 4 أشهر ،سنة، 7 سنوات )ثمَّ قامَ البَاحِثونَ بتوزيعِهم في ثلاثِ مجموعاتٍ استناداً لوضعِهِم الاجتماعيِّ الاقتصاديّ الذي جرى تقيِيمُهُ بعدَ مقابلاتٍ مع أوليائِهِم ¹ . لم تَبدُ هذهِ المجموعاتُ أيَّ اختلافٍ في الفعاليَّةِ العصبيَّةِ عند الولادةِ، إلَّا أنَّه وفي عُمرِ 4 أشهرٍ أظهرَ 12.8% مِن أطفالِ المجموعةِ الأشدِّ فَقراً علاماتِ خَلَلٍ عَصبيٍّ مقارنةً مع 9.3% في المجموعةِ الأقلِّ فقراً . و أخذَ الفَرْقُ يَتَعمَّقُ أكثرَ في عُمرِ 7 سنواتٍ، ليُصبِحَ 20.2% مُقابِلَ 13.5% بينَ المَجموعَتينِ سابِقَتَي الذِّكرِ.
وعلى الرَّغمِ مِن كَونِ اختلاطاتِ الحَملِ والوِلادَةِ أكثر شُيوعاً في صُفوفِ النِّساءِ ذَواتِ الدَّخلِ المُنخَفِضِ، إلَّا أنَّ هذه الاختلاطاتُ لَم تُستَخدَم كَتَفسيرٍ لارتفاعِ مُعدَّلاتِ حُدوثِ خَلَلٍ عَصبيٍّ عِندَ الأطفالِ .وبذلكَ اقترَحَ الباحثونَ جُملةً مِنَ العَوامِلِ الأُخرى التي قَد يكونُ لَها دورٌ في تفسيرِ مَوجُوداتِ الدِّراسةِ ومِن بينِ تلكَ العَوامِلِ: خَللٌ هرمونيٌّ بسببِ الحالَةِ النَّفسيَّةِ والعَصَبيَّةِ للأُمِّ ، استهلاكُ الكحولِ و/أو المُخدِّراتِ أثناءَ الحَملِ، كما أنَّ الانتشارَ الأكبرَ لظاهرةِ العُنفِ ضدَّ الأطفالِ وشُيوعَ القَلقِ والاكتئَابِ وغَيرها مِن اضطراباتِ الصِّحَّةِ النَّفسيَّةِ في العائلاتِ الفَقِيرةِ قَد يكونُ له تأثيرٌ مماثلٌ في إحداثِ خَللٍ تَطوُّريٍّ بعدَ الولادةِ.
أمَّا عَن طبيعةِ الخَللِ العصبيِّ المُحتملِ تَطوُّرُهُ فإنَّهُ قَد يَأخذُ أشكالاً مُختلفَةً أشيَعُها: ضَعفُ التَّنسيقِ الحَركيِّ، صُعوباتُ التَّعلُّمِ، اضطراباتُ نقصِ الانتباهِ، الصَّرعُ بالإضافَةِ إلى بعضِ الاضطراباتِ النَّفسيَّةِ كاضطرابِ القَلقِ والفِصَام .
وقَد يُشيرُ البعضُ إلى قِدَمِ هذهِ الدِّراسَةِ ومَدى التَّطَوُّرِ الذي شَهِدَ وسائِلَ تَشخيصِ الاضطراباتِ العصبيَّةِ في يومِنا هذا، غَيرَ أنَّ المُقاربَاتِ التَّشخيصيَّةَ المُستَخدمَةَ في هذا البَحثِ ماتَزَالُ فعَّالةً وِفقَاً لِرَأيِ القَائِمينَ على الدِّراسَةِ، كما أنَّ الدِراساتِ التي تَتَطرَّقُ إلى موضوعٍ كهذا تُعتَبَرُ ذاتَ قِيمةٍ كبيرةٍ، خاصَّةً أنَّ مُشكلةَ الفَقرِ في تَضَخُّمٍ مستمرٍّ عَبَرَ السَّنواتِ وفِي مُختَلَفِ المُجتمعاتِ، وانطِلاقَاً مِن ذَلكَ يَرى البَاحِثُونَ ضَرورةَ المُتابَعَةِ فِي دِراساتٍ مُشابِهَةٍ لتَقدِيمِ فهمٍ أوسَعَ حَولَ الآليَّاتِ التي يُؤَثِّرُ فيها تَرَاجُعُ الحَالَةِ الاجتماعيَّةِ والاقتِصادِيَّةِ على الوَظِيفَةِ العَصبيَّةِ وتَوقيتِ حُدوثِ تِلكَ الآليَّاتِ والأهمُّ هُوَ مَدى كَونِها عَكوسَةً، وبِذلكَ فَقَد يُصبِحُ بالإمكانِ إيجادُ عِلاجاتٍ أكثرَ نَوعيَّةً تَهدُفُ إلى حِمايَةِ أدمغةِ الأطفالِ مُنذُ بَدءِ تَطَوُّرِها.
المصدر: