الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة
المصادرةُ على المطلوب
من الطبيعيِّ عند حدوثِ أيِّ جدلٍ أن نأتيَ بدليلٍ يثبتُ الكلام، ويضعُ النقاطَ على الحروف، ويُبعِدُ الشبهاتِ، ويُظهِرُ الحقائق. هذا الدليلُ يجبُ أن يكونَ أقوى من المطلوبِ بُرهانُه، ولكنْ عندما يكونُ الدليلُ هو نفسَه المطلوبَ برهانُه على نحوٍ مختلفٍ لفظيًّا، ومتساوٍ في المعنى ضمنيًّا؛ كأنْ يُطلَبَ من أحدِهم أن يأتيَ بتعريفٍ للدائرة، فيُجيبُ بأنها «خطٌّ منحنٍ مغلقٌ، له بُعدٌ ثابتٌ عن نقطةٍ معينةٍ وهي المركز، ويكونُ دونَ زوايا»، ثم يأتي آخرُ ويقول: «لا، بل هي خطٌّ منحنٍ مغلقٌ، له بُعدٌ ثابتٌ عن نقطةٍ معينةٍ وهي المركز، ولا أضلاعَ فيه!»، (لا أضلاعَ فيه) تعني حتمًا أنه لا زوايا فيه؛ ومن ثَمَّ فهو موافقٌ ضمنيًّا على الكلامِ الأول؛ بأنّ الدائرةَ لا تحوي زوايا.
المصادرةُ على المطلوبِ هي أن نأتيَ بمقدمةٍ في الأصلِ تتضمّنُ المطلوبَ إثباتُه، ثم نستنتجُ منها ما نريدُ أن نستنتجَه، وغالبًا تكونُ هذه المغالطةُ مستخدَمةً على صيغةِ سؤالٍ أو تعليل.
ومثالُ ذلك أنْ يُقال: «السرقةُ فعلٌ غيرُ مشروع؛ لأنها لو لم تكن كذلك لمَا حرَّمَها القانون».
هي محرَّمةٌ من القانونِ في الأصلِ لأنها غيرُ مشروعة، فلو كانت مشروعةً لن يحرِّمَها القانونُ حتمًا! ونحن في تعليلِنا هذا نلجأُ إلى شيءٍ آخرَ لم نختلفْ عليه في الأصل، وكأنّنا نضعُ فوقَ الحقيقةِ ستارًا من الكلمات، ونُظهِرُها بشكلٍ آخرَ، لكن دونَ أن نغيّرَ من جوهرِها؛ لأنّنا في الأصلِ نؤمنُ به.
أيضًا عندما يقولُ أحدُهم: «ما دمتُ لا أكذبُ فأنا أقولُ الحقيقة».
وقولُ الحقيقةِ هو ضمنيًّا عدمُ الكذب؛ ومن ثَمَّ فهو مُثْبَتٌ أصلًا.
قد يبدو للقارئِ المبتدئِ أنّ المصادرةَ على المطلوبِ هي مغالطةٌ واضحةٌ للعِيَانِ، سهلةُ الانكشافِ، وليست بحاجةٍ إلى دراسةٍ وتحليلٍ يجعلانِ الأمورَ أكثرَ صعوبةً وتعقيدًا. في الأصلِ هي سهلةٌ لا صعوبةَ فيها، لكنّ الأمرَ ليس كذلك دائمًا وببساطةِ الأمثلةِ السابقة؛ إذْ يكفي أن نقولَ إنّ عقلًا بحجمِ عقلِ أرسطو -المعلمِ الأولِ، ومؤسِّسِ المنطقِ الصُّورِيّ- قد ارتكبَ مصادرةً على المطلوبِ بيّنَها غاليليو، حينما أرادَ أرسطو أن يثبتَ أنّ الأرضَ في وسطِ العالمِ؛ فقال: «الأجسامُ الثقيلةُ تميلُ بطبعِها إلى مركزِ العالم، والأجسامُ الخفيفةُ بطبعِها تبتعدُ عنه، والتجرِبةُ تدلُّنا على أنّ الأجسامَ الثقيلةَ تميلُ إلى مركزِ الأرض، والخفيفةَ تبتعدُ عنه؛ إذن فمركزُ الأرضِ هو بعينِه مركزُ العالم».
إنّ المقدمةَ هنا فيها مصادرةٌ على المطلوب؛ فالتجرِبةُ تدلُّنا حقًّا على أنّ الأجسامَ الثقيلةَ تميلُ إلى مركزِ الأرض، والخفيفةَ تبتعدُ عنه، ولكنْ من أين يقولُ لنا أرسطو إنها تميلُ إلى مركزِ العالم، إذا لم يكن يفترضُ أنّ مركزَ الأرضِ هو بعينِه مركزُ العالم؟ وهذا هو المطلوبُ بَرهنتُه!
أمّا عن الاستدلالِ الدائريِّ والمبنيِّ على إثباتِ فكرةٍ عن طريقِ الاستدلالِ ببُرهانٍ من ضمنِ الفكرةِ الأساسية؛ فهو كأنْ نقولَ مثلًا إنّ إثباتَ وجودِ الرجلِ العنكبوتِ موجودٌ في فيلمِ الرجلِ العنكبوت.
نحن هنا نتحدثُ عن شكلٍ من أشكالِ المصادرةِ على المطلوب، وهو افتراضُ صدقِ الدَّعْوَى بدليلٍ على وجودِ الدعوى أساسًا.
مثالٌ آخر:
- إني أطلبُ منك أن تقومَ بهذه المهمة؛ لأنني أقدِّرُ كفاءتَك.
- وكيف أعرفُ أنك تقدِّرُ كفاءتي؟
- لو لم أقدِّرْها لما كنتُ طلبتُ منك القيامَ بهذه المهمة!
أخيرًا، إنّ امتلاكَ الحُجّةِ والبُرهانِ والدليلِ، ومن ثَمَّ المَنطقيّة؛ هو وحدَهُ فقط كافٍ للإقناع. كما أنّ الاحتكامَ إلى العقلِ والتفكيرِ النقديِّ في أيِّ مسألةٍ في حياتِنا هي غايةُ التَّتَوُّجِ الفكريّ، ورأسُ الهرمِ المعرفيّ.
المصدر:
المغالطات المنطقية، عادل مصطفى، 2007، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى.