العمارة والتشييد > عمارة سورية التاريخية
سوق العصرونية الأثري
تعرض سوق العصرونية الأثري في دمشق، في الصباح الباكر من يوم السبت 23 نيسان 2016م لحريق هائل التهم عدداً كبيراً من المحلات التجارية. وهي ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها هذا السوق لحريق مدمر، فقد تعرضَ خلال تاريخه لعدد من الحرائق وتمكن من نفض غبار الموت والعودة للحياة من جديد. لنتعرف معاً في هذا المقال على هذا السوق الأثري ومايمثله لمدينة دمشق َالعريقة.
يمتد هذا السوق من الجنوب الى الشمال بين سوق الحميدية وسوق المناخلية، وذكرته خارطة دمشق في العام 1922م باسم (زقاق البنك) نسبة للبنك الامبراطوري العثماني الذي تَواجد فيه، غير أن الشكل الذي ورد في هذه الخريطة مختلف عن شكله الحالي. فما يعرف بسوق العصرونية اليوم هو في الحقيقة مؤلف من ضم "زقاق البنك" و"سوق القلعة".
ضم سوق العصرونية الكثير من المباني التاريخية. كما أن قرب السوق من القلعة وسوقها عرّضه لأحداث كثيرة، فكانت السوق مغطاة بسقف من الخشب، بيد أن هذه السوق تَهدّمت مع الكثير من البيوت المجاورة والمشيدات الأثرية إبان الثورة السورية ضد الفرنسيين عام 1925 ميلادية نتيجة للقصف المدفعي الفرنسي للمنطقة. فيما بعد أعيد تنظيم السوقين معا في سوق واحدة مكشوفة أخذت مسمى العصرونية. ولكن حتى هذه الأخيرة لم تسلم لاحقا من القصف الفرنسي المتجدد، إذ تَعرّضت للقذائف الفرنسية الموجهة إلى القلعة عام 1945م فتدمرت الكثير من منشآتها ومحالها، وقد أعيد بناء بعضها على الطريقة الحديثة مكان الأبنية المدمرة. وفيعام 1984 هُدم جزء من الجانب الغربي للسوق بقصد كشف جدار القلعة الشرقي بأكمله.
أطلقت تسمية سوق العصرونية على هذا السوق والمناطق المجاورة له نسبة إلى المدرسة العصرونية التي كانت فيه، والطريف في الأمر أن اسم العصرونية أصبح يطلق على الأدوات المنزلية ومحلات بيعها.
تاريخياً فإن القسم الجنوبي من السوق (القريب من سوق الحميدية) كان مخصصاً لبيع بعض المنتجات الشرقية والنراجيل وتوابعها والأدوات المنزلية والمطبخية ولايزال الى يومنا هذا، أما قسمه الشمالي (القريب من سوق المناخلية) فكان لتجارة لوازم اكساء البيوت والعدد والأدوات الصناعية ولوازم النجارين، وفي مطلع الثمانينيات أزيل النسق الغربي بغية الكشف عن الجدار الشرقي لقلعة دمشق الأثرية وبابها الرئيسي.
وتتواجد في سوق العصرونية مشيدتان تاريخيتان هما:
1- الجدار الشرقي لقلعة دمشق وأبراجها وبابها الرئيسي: وتعود للعصر السلجوقي وأُكمل بناؤها في العصر الأيوبي.
2- مبنى البنك الامبراطوري العثماني : شيد البناء أيام السلطان عبد الحميد الثاني عام 1895م، وعند تأسيس بنك سوريا ولبنان شغل مكانه حتى عام 1932من ثم شغله بنك زلخا*.
ومن المباني التاريخية أيضا جامع دار الحديث الأشرفية، وهو مسجدٌ صغيرٌ نسبياً تبلغ مساحته نحو 400 متر مربع بطابقين ويضم مئذنة ومصلى وباحة صغيرة تتوسطها بحرة تزيينيه. ثم هناك مبنى مدرسة زهرة خاتون التي تعود إلى العصر الأيوبي، وهو مغلق حاليا، وثمة جامع آخر قديم أيضا يدعى جامع الخندق.
كما تتميز سوق العصرونية بأنها شهدت تأسيس أول سوق للبورصة في دمشق. فقد انطلقت في جزء من السوق سُمي سوق البُورَص، كان يربط العصرونية بسوق الحميدية ويضم محلات صغيرة لصرّافي العملة الأجنبية وبائعي الذهب. غير أن محلاته حاليا تحولت لبيع مستلزمات المرأة من عطور وأدوات زينة وماكياج وغيرها، بعدما كان في أربعينات وخمسينات القرن المنصرم يشهد وبشكل يومي تجمُّع تجار دمشق لمعرفة حركة البورصة العالمية والمحلية. ولكن العمل في سوق البورصة انتهى مع بدايات الستينات، وصدور قرار الحكومة السورية ـ آنذاك ـ بتأميم البنوك الخاصة.
وخلال النصف الأول من القرن العشرين توسعت السوق بشكل ملحوظ، فاستقطبت الكثيرين من تجار دمشق الذين حوّلوا مستودعاتها المغلقة، وبعض البيوت القديمة التي عملوا على ترميمها، إلى محلات تناغمت مع تخصّص السوق الأساسية في بيع كل ما له علاقة بالبيوت والخردوات ومستلزمات البناء الخفيفة. وفي أحد تفرعات السوق توجد محلات تخصصت في بيع ألعاب الأطفال بكل أنواعها وأشكالها.
من المؤكد أن ماحصل صبيحة يوم السبت سبب الكثير من الأضرار لهذا السوق الأثري، ومايمثله لمدينة دمشق القديمة المصنفة على لائحة التراث العالمي، الا أن التاريخ يقول أن دمشق في كل مرة تتعرض فيها لمثل هذه الحادثة تعودُ من جديد لنتفض الآلام و تكسب معركة الحياة بتعاون أبناءها وحبهم للحياه. فهل سيصدق التاريخ هذه المرة أيضاً ويعود سوق العصرونية مرة أخرى للحياه وربما أفضل مما كان سابقاً؟
*الشهابي، قتيبة، أسواق دمشق القديمة، وزارة الثقافة، 1990م، ص77
المصدر:
-الشهابي، قتيبة، أسواق دمشق القديمة، وزارة الثقافة، 1986م، ص245