الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية
المدرسة البنائيّة في العلاقات الدَّوْليّة - الجزء الأول مدخل إلى المدرسة البنائيّة
إنّ أهمَّ مَن أسهمَ في تطويرِ المنظورِ البنائيِّ في العلاقاتِ الدَّوْليةِ هو (ألكسندر ويندت)، إذْ يُعدّ كتابُه (نظريةٌ اجتماعيةٌ في السياسةِ الدَّوْليّة) مِن أهمِّ الكتبِ التي يرى فيها الكثيرُ من الأكاديميِّين مرجعًا للنظريةِ البنائية. وقد أَسهمت البنائيةُ إسهامًا مهمًّا في نظريةِ العلاقاتِ الدَّوْلية، مضيفةً بمقترَبِها السوسْيولوجيِّ، وما يترتّبُ عليه من استخدامِ مفاهيمَ سوسْيولوجيةٍ في السياسةِ الدَّوْليّة؛ بُعدًا أبسْتمولوجيًّا جديدًا يسهمُ في دراسةِ دوافعِ السُّلوكِ الدَّوْليِّ لوَحْداتِ النظامِ الدَّوْليّ، والأحداثِ والظواهرِ الدَّوْليّة؛ وذلك بمفاهيمَ تحليليّةٍ أبعدَ مِن التركيزِ فقط على مفاهيمَ محددةٍ -كالمصلحةِ الوطنيّةِ والأمنِ القوميِّ- ببُعدِها المادِّيّ، كما فعلت الواقعيّة. فقد أضافت البنائيّةُ في تحليلِها مفاهيمَ كلّيّةً (macro concepts) تستوعبُ دراسةَ الأفكارِ والقيمِ والهُويّاتِ والبناءِ الاجتماعيّ، بصفتِها عواملَ تدْخلُ في تشكيلِ الدوافعِ الرئيسةِ لسُلوكِ الفاعلين في النظامِ الدَّوْليّ، بناءً على التفاعلِ القائمِ الدائمِ والمستمرِّ بين البِنَى والفاعلين الذين ليسوا الدولَ فقط، بل هم أيضًا –وَفْقًا للمقترَبِ البنائيّ- المنظماتُ الدَّوْليّة، والمنظماتُ غيرُ الحكوميةِ كذلك، وهذا دونَ التَّخلِّي عن اعتبارِ أنّ الدولةَ هي الفاعلُ الأساسيّ، ودونَ إهمالِ دورِ المصلحةِ الوطنية. ولكنّ البنائيةَ ركّزتْ على أهميةِ التفاعُلِ بين هذه المكوِّناتِ والأفكارِ والهُويّات، وكيف تحدِّدُ الأفكارُ المصلحة، أي إنّ المصلحةَ بالمنظورِ البنائيِّ مُكوّنٌ ذو وعاءٍ اجتماعيّ.
وبشكلٍ مبسَّط، فإنّ أتْباعَ البنائيةِ يعتقدون أنّ الهُوِيّةَ والأفكارَ والمصلحة: مفاهيمُ لا يمكنُ الحديثُ عن أحدِها دونَ الآخَر.(1)
بدايةً، تجدُرُ الإشارةُ إلى أنّ البنائيةَ مقترَبٌ، أكثرَ من كونِها نظرية. فهي مُقترَبٌ؛ لأنها مدخلٌ فكريٌّ يقدِّمُ منهجًا لدراسةِ العلاقاتِ الدَّوْليّةِ بمنظورٍ سوسْيولوجيّ؛ إذْ إنّها مُقترَبٌ لمْ يدخل مَيْدانَ العلاقاتِ الدَّوْليّةِ حتى ثمانينيّاتِ القرنِ العشرين، لكنْ قبلَ ذلك، كانت البنائيةُ اتّجاهًا أبسْتمولوجيًّا فلسفيًّا، محورُ اهتمامِه -كما ورد في الإنكلوبيديا: «كيف تتشكّلُ المعاني لدى البشرِ في سياقِ العلاقةِ التفاعليةِ بينَ خبراتِهم وأفكارِهم». وهي مُقترَبٌ يجعلُ مِن الممكنِ للباحثِ في العلاقاتِ الدَّوْليّةِ وضعُ أسسٍ نظريةٍ لظواهرِ السياسةِ الدَّوْليّة، وتمكِّنُه من التنبُّؤِ دونَ أن تتنبَّأَ بذاتِها بظواهرَ عامة.
مفاهيمُ البنائيةِ الأساس:
إنّ المفهومَين الرئيسَين اللذَيْن تقومُ عليهما البنائيةُ في العلاقاتِ الدَّوْليّةِ هما: (البنْيةُ - structure)، و(الفاعلُ - agent)، إضافةً إلى التفاعلِ الدائمِ بينهما -بطبيعةِ الحال- دونَ أن تفوقَ أهميةُ أحدِهما أهميةَ الآخر، فكلاهما -أي البنْيةُ والفاعل- على الدرجةِ ذاتِها من الأهمية. فالبنْية: هي المؤسساتُ والمعاني (القيمُ والأفكارُ والهُوِيّاتُ) المشتركةُ، التي تشكّلُ معًا سياقَ الفعلِ الدَّوْليّ، والفاعلون: هم الوَحْداتُ التي تتفاعلُ مع بعضِها ومعَ البِنَى الاجتماعيةِ ضمنَ هذا السياق، فتؤثِّرُ وتتأثَّرُ بها.
بهذا نكونُ قد حدَّدْنا المفاهيمَ السوسْيولوجية التي تقومُ عليها البنائيةُ في تحقيقِ العلاقاتِ الدَّوْليّة. وسنتعرَّضُ في الجزءِ الثاني إلى المرتكَزاتِ التي تبني عليها البنائيةُ اقترابَها لفَهْمِ السياسةِ الدَّوْليّة، بالإضافةِ إلى كيفيةِ تطبيقِ التحليلِ البِنائيِّ لفَهْمِ السياسةِ الدَّوْليّة.
المصدر:
(1): خالد المصري، البنائية في العلاقات الدولية، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والقانونية - المجلد 30 - العدد الثاني.