الفيزياء والفلك > علم الفلك
لماذا يَبدو الفضاءُ مُظلماً ؟
لماذا يَبدو الفضاءُ مُظلماً ؟
سَتجاوِبني ببساطةٍ لأنَ الأرضَ تدورُ حول نَفسها وفي الليل نَكون في النِصفِ المُظلم منها، أي في النِصفِ المُعاكسِ لجهة الشَمس.
أعتذر عن تخييب ظنك، لكن يُفتَرضُ أن يكون الأمرُ مُختَلِفًا. يَحتوي الكونُ على أكثرَ مِن 100 مليارِ مجرةٍ. إحدى هذهِ المجرات، مَجرَتنا دربُ التّبانة التي تحتوي لِوحدها على قُرابَةِ 200 مليار شمسٍ نراها على شكلِ نجومٍ في الليل، و بالنظر إلى هذا العددِ الهائل من النجوم يُفترضُ أن نَحظى بليالٍ ساطعةٍ و مضاءةٍ كالنهار.
تسائل العلماءُ لأكثر من 400 سنة عن سببِ ظُلمة السماء. حاولَ الجميع ابتداءً من يوهانس كيبلر(Johannes Kepler) إلى إدموند هالي (Edmond Halley) معرفةَ الإجابةِ على هذا السؤال. لكِنَ الفلكيَ الألماني هاينريش فيلهيلم أولبرس (Heinrich Wilhelm Olbers) هو من تُنسبُ إليه مُفارقَةُ السماءِ المُظلِمة. إذ تساءل أولبرس إن كانَ الكونُ غيرَ محدود، وهناك عدد لا حصر لهُ من النجوم القديمة ، فلماذا يكون الضوءُ الساطعُ من هذه النجوم غير مرئيٍّ لنا. إذا كان ذلك صحيحاً فإن السماء ليلا يجبُ أن تكونَ مشرقةً كالنهار وليست مُظلمة.
لتفسيرِ هذهِ المُتناقِضة لجأ بعضُ علماءِ القرن التاسع عشر لنظريةٍ تنصُ على أنَّ سُحُبَ الغُبارِ بينَ النُجومِ قد تمتصُ الكثير من ضوءِ النُجوم الوارِد إلينا و تَحجُبه عَنا، لكن لاحقاً أدركَ العلماءُ أنّه إن كانت هذه النظريَةُ صحيحةً فإنَّ الغُبارَ الّذي يَمتصُ الطاقَة الناتِجةَ عن ضوءِ هذه النجوم سَيمتَصُ قدراً كافياً من الطاقةِ ليتوهَجَ ويُشعَ بنفسِ دَرجةِ حرارةِ هذهِ النجوم وشدةِ إضاءتها في نهاية المطاف، الأمر الّذي يزيدُ من توهُج السماء و ليس العكس.
مع نهاية القرن التاسع عشر، نبذ العلماءُ فِكرةَ الكون اللامتناهي (الغير محدود) ، و أدركَ عُلماءُ الفلكِ أنّ الكونَ ذو حجمٍ محدود و يعتقدُ العلماءُ أن هذا أفضلُ تفسيرٍ لمتناقضةِ أولبرس. وقد نجح اللورد كيلفن بأن يبرهن رياضيا على أن كونًا ذو عمرٍ محدود مثل كونِنا يَجبُ أن يكونَ مُظلمًا. إذ أنَ الكونَ المحدود لهُ نقطةُ بدايةٍ كأي شيء آخر فقد وُلدَ قبل 13.8 مليار عام نتيجةَ انفجارٍ هائل "Big Bang" ومن ثُمَ أخذَ بالتمددِ مُنذُ ذلك الحين وحتى هذه اللحظة، و كنتيجةٍ لتمددِ الكون فإنَ المجراتِ والنجوم تَتحركُ مبتعدةً عنا، وتزدادُ المسافةُ بيننا وبينها بمرور الوقت، مما يؤثِرُ على الضوء الوارد الينا. فَعِندما نرى مجرةً تبعدُ مليونَ سنةٍ ضوئية عنا، فإنَ ما نراهُ حقًا هو الضوءُ الذي انطلقَ من هذهِ المجرة قبل مليون سنة، وبما أنَ المسافةَ بيننا وبين هذه المجرات تزداد بمعدل ثابت نتيجةً لتمدد الكون، فإنّ الضوء الّذي تُصدرهُ المجرةُ في هذه اللحظة سيحتاجُ إلى قطعِ مسافةٍ أكبر من مليونِ سنةٍ ضوئية. مما يعني أنَّ كميةَ الطاقةِ الضوئية الواردة إلينا من هذه النجوم تتضائلُ يوماً بعد يوم.
وكُلما ابتعدتِ النجومُ أكثَر، كُلما أصبحت إضائتُها خافتةً أكثر لان هذه الإضاءةَ قد صَدرت قبل زمنٍ طويلٍ جِدا قريبٍ من ولادة الكون الأمر الذي أدى إلى ضياعِ طاقتها نتيجة انزياحها، فتحولت إلى أشعةٍ ميكروية انحرفَ طيفُها نحو اللون الأحمر و خرجت من مجال الطيف المرئي بالنسبة لنا، لأنَ العينَ البشرية لا تستطيع إلا أن ترى الطيف المرئي ولو تمكنا من رؤية كامل الطيفِ من الأشعةِ تحتَ الحمراء وفوقَ البنفسجية لكان الكون أكثر إضاءة من ما نراه حالياً. أضِف إلى ذلك أن إدراكنا للفضاء على انهُ مُظلم، يعودُ إلى وجودِ عددٍ قليلٍ من جُزيئات المواد التي تَعكِسُ الضوء المُبعثرفي الفضاء. بنفس الطريقة التي تعكُس فيها جزيئاتُ الغلاف الجوي على الأرض أشعةَ الشمس في النهار، فتُصبِحُ السماءُ مُنيرةً. و بسبب الفراغ الكبير في الفضاء و قلة الجُسيمات العاكسة للضوء فإنّ الضوءَ يعبُرُ الفضاءَ في خطوطٍ مستقيمة ليمتصهُ الفراغ. خلافاً لما يحصُلُ للضوء في غلافنا الجوي.
تخيّل مِصباحاً يدوياً في غُرفةٍ مُظلمة، إن نظرتَ إلى الضوءِ بشكلٍ مباشر فإنك سترى الضوء. و إِن وَجهتَ إضاءة المصباح إلى الحائط مثلاً أو إلى قطعةِ أثاث، فإنك سترى انعكاس الضوء بشكلٍ واضح. أما إن لم يَنعكس الضوءُ على أي جسمٍ فإنك لن تَرى إضاءة المصباح بشكلٍ واضح. و هذا ما يحصُل في الفضاء.
وفي النهاية لا يسعنا أن نقولَ إلا أننا محظوظون جِداً لأنه لولا هذه الخلفية المُظلمة لما تَبينَت لنا روعةُ النُجوم والأجرام الفلكية الأُخرى.
المصدر: هنا