الرياضيات > الرياضيات
غريغوري بيرلمان, ثائر إنطوائي غريب الأطوار وسّع الوعي البشري
َطَرحَ العالم الفرنسي هنري بوانكارييه حدسيته في الطوبولوجيا في بداية القرن العشرين، تحديداً عام 1904 ظلَّت هذه الحدسية أو المخمنة عصيّة على البرهان قرابة قرن من الزمان، إلى أن تمكن عالم الرياضيات المتقشف من برهانها عام 2002، فاستحق بذلك وسام فيلدز في الرياضيات، و جائزة الألفية الثالثة وقيمتها النقدية البالغة "مليون دولار أمريكي" لكنّه رفضها ورفض كل الجوائز مبرراً ذلك بأنه لم يشعر يوماً بأنه ينتمي إلى هذا العالم المعتوه المليء بالحمقى والمتملقين.
عمل بيرلمان وحيداً، في مسقط رأسه سان بطرسبرغ حيث لا يزال يعيش مع والدته حياة تتسم بالبساطة والتقشف، ولم يكن أحد على علمٍ بما عكف عليه هذا العالم.
في عام 2006 رفض وسام فيلدز في الرياضيات، والذي يعتبر أرفع وسام أو جائزة في عالم الرياضيات، وهي المعادلة لجائزة نوبل، وفضل الحفاظ على حياته البسيطة متقاعداً من عمله كباحث في الرياضيات.
ولد الرياضي الروسي بيرلمان في سان بطرسبرغ (و التي كانت تسمى ليننغراد في فترة الاتحاد السوفيتي) في 13 حزيران من عام 1966، كان والده مهندساً كهربائياً وأمه مدرسة رياضيات، كان والده حريصاً على تحدي ولده وتشجيعه على حل الألغاز الرياضية، و تعليمه الشطرنج، ولبيرلمان أخت صغرى هي إلينا أصبحت رياضيّة أيضاً هي الأخرى.
في سن 14 كان بيرلمان الألمع بين زملائه في حل المسائل الرياضيّة في نادي الرياضيات في مدينته، و نال الإعجاب و التشجيع من قبل رئيس مركز سان بطرسبرغ سيرجي روكشين لرعاية الموهوبين في الرياضيات، و بعد عامين حصل على المركز الأول و الميدالية الذهبية في أولمبياد الرياضيات الدولي في بودابست عاصمة المجر (هنغاريا)، كان بيرلمان وحيداً إلا أنه لم يكن عدائياً تجاه زملائه، كما أن اهتماماته تخطّت الرياضيات إلى الأوبرا الإيطالية، التي أحبها لدرجة أنه أنفق مدخراته الزهيدة في شراء تسجيلاتها.
دخل بيرلمان جامعة سان بطرسبرغ في سن السادسة عشرة من عمره، ونال إعجاب أساتذته في الجامعة ولاسيما يوري بوراكو، والذي وصف طالبه بأنه دائماً مايأتي بالإجابات الصحيحة، إنه يفكر بعمق ويدقق كثيراً قبل الإجابة لذلك تكون إجاباته غير سريعة سيما أن السرعة في الرياضيات لا تعني شيئاً.
أكمل بيرلمان دراسته ونال شهادة الدكتوراه في الهندسة الإقليدية في نهاية الثمانينات، عمل في بداية التسعينيات في معهد ستكلوف في سان بطرسبرغ ناشراً مجموعة من الأبحاث في الهندسة، تلقى دعوة للعمل كأستاذ زائر في جامعات نيويورك عام 1992، ولكن الظروف الاقتصادية الصعبة في روسيا ولا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، دفعته الى الموافقة . وجد بيرلمان الأجواء مريحة و مشجعة في الولايات المتحدة، و نال محبة العاملين معه رغم غرابة أطواره، حيث وصل طول شعره وأظافره الى عدة بوصات. ركز بيرلمان اهتمامه في إعطاء سلسلة من المحاضرات في معهد برنستون للدراسات المتقدمة في نيوجرسي مع زميله الصيني جانك تيان، وأتاحت له فترة بقائه في الولايات المتحدة التواصل مع أعظم علماء الرياضيات في عصره والتحاور حول مخمنة أو حدسية بوانكارييه، حيث قابل الرياضي ويليام ثورستون الذي وضع مجموعة من التعميمات ذات الصلة بتلك المخمنة، أثارت هذه التعميمات اهتمام بيرلمان لدرجة أنه أخبر ثورستون عن بعض أبحاثه التي سينشرها فيما بعد في هذا المجال، وصف ثورستون تصرف بيرلمان بانفتاح و كرم هاملتوني، في إشارة إلى طباع وليم هاملتون، عالم الرياضيات الذي عُرف بتلك السمات.
مخمنة بوانكارييه تقول: "إن أيّ حلقة (أو عقدة) من نوع معين في الفضاء ثلاثي الأبعاد، يمكن أن تتقلص إلى نقطة دون أن تتمزق أو أن تمزق الفضاء، وبالتالي فإن الفضاء حسب هذه المخمنة مكافئ لسطح كرة
(للاطلاع على مقالنا السابق عن حدسية بوانكارييه هنا )
تكمن صعوبة برهان هذه الحدسية في أنها تتطلب دراسة سطح الكون، غير أن الحدسية الهندسية ثورستون خلقت تصنيف تشعبات ثلاثية الأبعاد و التي مهدت الطريق لبيرلمان لبرهان حدسية بوانكاريه فيما بعد .
نشر بيرلمان العديد من الأبحاث عالية القيمة أثناء عمله اللاحق في جامعة بيركلي، و تلقى دعوات لحضور العديد من المؤتمرات العلميّة حول العالم، و من المواقف الطريفة أنه رفض إرسال سيرته الذاتية إلى لجنة القبول في ستانفورد معللاً ذلك بعدم وجود مبرر للسيرة الذاتية طالما أن اللجنة مطلعة على أعماله، ومن المواقف الأخرى رفضه لجائزة منحته إياها مؤسسة أوروبية كون العاملين بها غير مؤهلين لتقييمه.
رفض بيرلمان العديد من الوظائف ذات المردود العالي وعلَّل رفضه بأنه يملك ما يكفي من المال للعيش ما تبقى من حياته، وفضل العودة إلى مؤسسته الأم، معهد ستكلوف، حيث عاد إلى منزله ليعيش مع أمه بعد أن رحل والده.
نشر بيرلمان في الحادي عشرة من تشرين الثاني لعام ٢٠٠٢ في موقع آركيف، وهو موقع لنشر مسودات الأبحاث العلمية، بحثاً تحت عنوان " الصياغة الأنتروبية لتدفق ريسسي وتطبيقاتها الهندسية"، ولم يحوِ هذا العنوان على أيّة إشارة إلى مخمنة بوانكارييه، بدلاً من ذلك حوى على مشروع هاميلتون للتدفق ريسيسي، حيث أن برهانه المقدم يبقى صحيحاً على ما يسمى 'مخمنة بوانكارييه الموسعة' ذات الصلة بتدفق ريسيسي.
المصدر: