الفنون البصرية > زيارة إلى متحف الفن
زيارة الى المتحف الوطني في لندن، عبَّادُ الشَّمس، شغفُ فينسينت فان غوخ
يحرصُ معظم زوار المتحف الوطني في لندن على رؤية لوحة عباد الشمس لفان غوخ في الغرفة 45 حيث تعدُّ واحدة من أكثر اللوحات شعبيّة، وتلقى المنتجات التي تُطبع عليها نسخة من هذه اللوحة إقبالاً كبيراً من الزوّار. فما هو سرّها؟
قصَّةُ اللوحة
انتقل الفنان الشَّغوف فنسنت فان غوخ الى مدينة آرل في جنوب فرنسا في شباط عام 1888 لكنه عانى من الغربة والوحدة وراودهُ حلمُ إنشاء جمعيَّةٍ للفنانين يكون مستشارها الفنان الرّائد بول غوغان، فقام في ربيع ذلكَ العام بدعوةِ غوغان لينضمَّ إليه في ما يسمى بـ "البيت الأصفر" الذي كان قد استأجره هناك. وفي انتظار غوغان، قضى فان غوخ صيفاً فنياً مثمراً عمد من خلالهِ الى إثارة إعجاب فنانه المفضَّل. حيث رسم عدة لوحات لتزيين غرفة غوغان كعربون لصداقتهما وشراكتهما المنشودة. كان شغفُ فان غوخ حينها أزهارُ عبّاد الشمس التي أصبحت في وقت ما مرادفة لفان غوخ بعد رسمه لسلسلة من سبع لوحات عنها، توزّعت في عدّة متاحف لتكون اللوحة الرّابعة ذاتُ الخمسة عشر زهرة ًمن نصيب المتحفِ الوطنيّ في لندن. و لاتزال النّسخ المتعددة والمطابقة لهذه اللوحة محطَ جدلِ الباحثين في مجال الفن.
لماذا عبّاد الشَّمس؟
كان لأزهار عبّاد الشَّمس أهميّة خاصة لدى فان غوخ إذ كان اللون الأصفر يوحي له بالسّعادة بالإضافة الى كون هذه الأزهار رمزاً للإخلاص والتّفاني في الأدب الهولندي. إلا أنَّ الأطباءَ والمعالجين النّفسيين الذين تابعوا أوضاعه الصحيّة عبر السّنوات كان لهم رأيٌ آخر. فقد كان فان غوخ يعاني من نوبات شخّصها الأطباءُ على أنها صرع الفصّ الصّدغي. إذ كان قد وُلِدَ بأذية دماغيّة تفاقمت بسبب إدمانه الأفسنتين (شراب مُسكر كان شائعاً بين الفنانين في ذاك الوقت) مما سبب له الصرع، بالإضافةِ الى احتواء هذا الشراب على سم الثوجون الذي يؤدي عند تناوله بجرعات عالية الى رؤية الأشياء باللون الأصفر. ويُعتَقَدُ بأن أحد أطبائهِ قد عالجه بعقار من فصيلةِ الديجيتاليس والذي من المحتمل أيضاً أن يسبب رؤية الأشياء باللون الأصفر. وهنا اختلف الأطباءُ في تفسير انجذابهِ الكبير لهذا اللون.
وأشار أحد أطبائهِ الى تناول غوخ لرقائق من الألوان خلال نوبات مرضهِ وبسبب احتوائها على الرّصاص سببت له التسممم بالرّصاص الذي يؤدي الى تورّم شبكيّة العين مما يسبب رؤية الضّوء كهالات حول الأشياء. وهذا ما نراه في كثيرٍ من لوحاته. وتظهر الأزهار في هذه اللوحات بمراحل مختلفة من الذّبول مما يذكِّرنا بدورة الحياة والموت ويعكُس شيئاً من حالتهِ النَّفسيّة.
تجارب لونيّة
بانتقاله الى باريس عام 1886، لاحظ فان غوخ، الذي يعد أبو المدرسةِ التّعبيرية، الألوان الجريئة لرواد المدرسة الإنطباعية في الفن (مثل رينوار) واستخدامهم للألوان الزَّاهية والمتضادةِ بجانب بعضها. كما لفته استخدام طبقة سميكة من الألوان مع ضربات فرشاة بارزة أو ما يسمى بـ .Impastoوقد عُرف أيضاً عن الانطباعيين استخدامهم لموضوعاتٍ من الحياة الواقعيّة والتّشديد على استخدام الأشكال الهندسيّة مع بعض التحريف لإضفاء تعبير إضافي عليها. كما قاموا أحياناً باستخدام ألوان غير طبيعيّة أو إعتباطيّة مما يعزّز الانطباع الذي يعطيه الشّكل الهندسي. سلسلة لوحات عبّاد الشّمس اتبعت هذا النّمط. حيث أعطت ضربات الفرشاة البارزة ذات المظهر النحتي شكلاً وملمساً لبذور دوار الشمس، كما ظهرَ اللونُ الأصفرُ للأزهار على خلفية زرقاء ليعود في النّسخ اللاحقة (كهذه النسخة) ليرسم الأزهار في مزهريّة صفراء متموضعةً على طاولة صفراء وبخلفية لحائطٍ أصفر لتبدو اللوحة مع ذلك مشعّةً. ولحسن الحظ كانت نوعية الألوان قد تحسّنت في حين رسمه لهذه اللوحات مما أبقاها نابضةً بالحياة ومحافظةً على جودتها الأصلية.
ورغم استخدامهِ لبعض تقنياتها، لم يكن فان غوخ مؤيداً للمدرسة الإنطباعيّةِ بشكل كامل حيثُ اتهمها بكونها زُخرفية بحتة. لذا يعدُّ فان غوخ من رواد المدرسة مابعد الإنطباعيّة التي كانت أكثر اهتماماً بتوظيف معنى ورمزية للأشياء المرسومة.
نهايةٌ مأساوية
وصل غوغان أخيراً في أوكتوبر عام 1888 ولكن بدلاً من الشَّراكة الفنيّة الملهمة التي كان يصبو إليها، تلقّى فان غوخ انتقاداتٍ موجعة جعلته غيرَ مستقّرٍ عقليّاً بشكل متزايد. فبالإضافة لنوبات الصرع، عانى فان غوج من نوبات اكتئابٍ تليها فتراتٌ استقرار ومن ثم فترات ابتهاجٍ شديد أي مايسمى اليوم بالاضطراب ثنائي القطب. ولعل شهرته بقطع أذنه خلال غحدى النوبات توازي شهرته الفنية. ولم يتوقف الأمر عند ذلك فقد قام خلال إحدى شجاراته مع غوغان بإشهار المسدس عليه مما اضطر الأخير لإنهاء إقامتهِ معه. وكنتيجة لذلك فقد اضطرت السلطات عام 1889 أن تقوم بوضع فان غوخ في مصح ليتم بعدها إدخاله مشفى للأمراض العقلية ومكث هناك حتى عام 1890 حيث انتحر بإطلاق النار على نفسه عن عمر 37 عاماً منهياً مسيرةً فنيّةً لم تتجاوز العشرَ سنواتٍ كانت كافيةً لتخلَّده في ذاكرةِ الفن العالمي.
معلومات عن اللوحة:
زيت على كتان
92.1 * 73 سم
المصادر: