علم النفس > المنوعات وعلم النفس الحديث
فرويد و اكتشاف العصبون ( الخلية العصبية )
قبل أن يعرَّف سيغموند فرويد على أنّه أبٌ للتحليل النّفسي، لابدّ من الإشارة لإنجازاته المهمّة في علم النّفس الحديث. مفاهيمٌ كثيرةٌ كعقدة القضيب، القمع، الرغبة الجنسيّة ومصطلح الأنا.
استطاع قليل من العلماء فقط ترك إرث ذاخر وغنيّ كالذي تركه فرويد. بالإضافة لنفيه واستبعاده من المجتمع العلميّ باعتباره مروّجاً لعلمٍ زائف، فإنّ المفاهيم الفرويديّة السّابقة الذّكر لاتتخلل الكثير من جوانب الثّقافة الشّعبيّة فحسب، ولكنّها تحمل في طيّاتها تأثيراً شاملاً أيضاً، وتلعب دوراً في تطوير علم النّفس، لتصنّفه مجلة التّايمز Time magazine كواحدٍ من أهم المفكّرين في القرن العشرين.
وقبل أن يبزغ إسمه كمؤسّسٍ للتحليل النّفسيّ، تدرّب فرويد وعمل كطبيب أعصاب. وكانت أبحاثه الأولى التي قام بها في علم الأعصاب تحت إشراف سانتياغو راموني كاجال Santiago Ramóny Cajal، الذي يعتبر مؤسّس علم الأعصاب الحديث، وساعد في إرساء أسسه.
ولد فرويد في 6/5/1856، في بلدة بريبور Příbor في جمهوريّة التشيك، وكان الأكبر بين إخوته الثمانية. بعد أربعة سنوات من ميلاده،قرّر والده جيكوب ،العامل في تجارة الصوف،
البحث عن فرصة عملٍ جديدة ، فسافر إلى النّمسا وأخذ عائلته بصحبته.
دخل فرويد الجامعة في عمر السّابعة عشر لدراسة الطّب، وفي عامه الثّاني كان ولعه بالأبحاث العلميّة ظاهراً للعيان. وقد كانت أبحاثه الاوليّة بوابةً للكثير من الأعمال المستقبليّة، فقد ركزت دراساته على الأعضاء الجنسيّة لثعبان البحر. أما النّتائج فقد كنت مُرضية بشكلٍ عام، إلا أن فرويد كان يكره استمراره في هذه الأبحاث لملله من تشريح الثعابين، وخوفه من اضطراره لتشريح المزيد، فانتقل بعدها لدراسة علم الأحياء والأنسجة العصبيّة، وقد اختارها طريقاً للسنوات العشر التّالية.
كان بروك Brücke من العلماء المهمين في مجال الفيزيولوجيا، مهتمّاً بكهربائيّة الأعصاب والعضلات. ثمّ عمل مع بعض العلماء المعاصرين مثل هرمان هيمهولتز Hermann von Helmholtz و إميل رايموند Emil du-Bois Reymond ، ولعب دوراً رئيسياً في انقلاب المذهب الحيوي، والفكرة القائلة بأنّ الكائنات الحيّة تختلف عن الجماد لامتلاكها نوعاً من الكيان غير المادّي، أو الطّاقة، التي ترتبط عند البعض بمفهوم الرّوح. (بروكي كان أيضاً من مناصري النظريّة القائلة بأنّ كل الكائنات الحيّة خاضعة بمختلف مكوناتها الحركية والحسيّة إلى القوانين الفيزيائيّة والكيميائيّة، الفكرة الّتي تبنّاها فرويد في نظريته للتّطوّر النفسيّ الحركيّ.)
سنواتُ ستُّ أمضاها فرويد في العمل في مختبر بروك، كان منهمكاً خلالها في المقارنة بين أدمغةِ الإنسان ومختلف أنواع الفقاريّات ، وبعض الكائنات اللافقاريّة، لتحديد الإختلاف فيما بينها. كانت أبحاثه تشمل الضفادع، سلطعون البحر وبعض أنواع الأسماك، وقد أتت بنتائجَ مهمّةٍ في علوم الأعصاب.
وصف فرويد فيها أنّ الألياف العصبيّة تنشأ من المادة الرّماديّة من خلال مادّة تشبه الشبكة، وأنّ سمكة المصباح تمتلك نخاعاً شوكياًّ يحوي خلايا غير متمايزةٍ تعطي الجذور العصبية الحسيّة، ساعد هذا الإكتشاف في دعم فكرة التّطور بين المتعضيات. كان فرويد أول من شرح تركيب ووظيفةَ جزءٍ من جذع الدّماغ يدعى بالدّماغ المتوسط، والمسارات الممتدّة من المادّة البيضاء إلى النّخاع الشّوكي.
كان تركيب الجهاز العصبي من الأسرار المحيرة في الأوساط العلميّة، وهو ما دفع بالعالمين تيودور شوارتزTheodor Schwann وماثيوس شليدن Matthias Schleiden للاعتقاد ، نتيجةً لمشاهداتهم تحت المجهر، بأن الكائنات الحيّة جميعها تتكوّن من وحداتٍ أساسيّة تدعى الخلايا. لم تكن المجاهر المتوفرة في ذلك الوقت قويّةً بما يكفي لرؤية المشابك العصبيّة، وهي فجوات بين الخلايا العصبية، في حين كان علماء الأنسجة منقسمين إلى فئتين، مؤيدوا فكرة الخلية، تلخّص دفاعهم في أن الجهاز العصبيّ مكوّنُ من خلايا كما في باقي الأنسجة الحيّة في الجسم، والشّبكيون، أي من كانوا يروا أن الجهاز العصبيّ مكون من نسيجٍ مترابطٍ بدلاً من الخلايا
قدّم فرويد في هذا المجال إسهاماتٍ متميّزةٍ لحلّ هذا النزاع ، ففي نهايةِ عام 1879 وبداية عام 1880، لاحظ الإرتباط بين المادّة الرّماديّة والألياف العصبيّةِ التي تتصل بها، ووصفها بدقّةٍ و وضوح.
طور فرويد أيضاً طريقةً جديدةً لتلوين النسيج العصبي. وكتب بحثاً من 1884 صفحةً تحت عنوان: ضمن دراستي لتركيب و تطور الدّماغ المستطيل". وهي طريقة جديدة لدراسة المسارات العصبيّة في الدّماغ والنّخاع الشّوكيّ. نشرت هذه الدّراسة في مجلة Brain المرموقة في الأوساط العلميّة حينها.
وصف فرويد ملاحظاته في محاضراته عم 1884:" إذ اعتبرنا أن اللييفات التي تشكل الألياف العصبيّة لها مسارات توصيل معزولة، علينا حينها أن نقول أن المسارات العصبيّة منفصلة لتلتحم ضمن الخليّة العصبيّة، لتصبح الخليّة بدايةً لكلِّ الألياف العصبيّة الخارجة منها. لا أعلم إذا كانت هذه الملاحظات كافيةً لتوضيح هذه المعضلة الهامّة، لكنّها تخدمنا جيّداً للوصول إلى فهم أكبر، وبإمكاننا الإفتراض أن التّحفيز الكافي لليفٍ عصبيٍّ يسبب تحفيز الألياف، الوحد تلو الآخر تدريجيّاً، وهلمَّ جراً."
اكتشف فرويد بعدها بمدّةٍ قصيرة العصبونات، لكنّ الطّريقة التي شرح فيها مكتشفاته كانت متحفّظةً ومبهمة. "الخلايا عصبيّة هي المكوّن الأساسيّ والعنصر الفعّال في عمل الجهاز العصبيّ”
وفي النّهاية، لقي هذا الشّرح الّذي قدّمه قبولاً واسعاً في بدايات التسعينات من القرن التّاسع عشر، بعد سبع سنوات تقريباً من محاضراته عن الموضوع ذاته. لقيت هذه النتيجة النّجاح بفضل كاجال Cajal، الذي استخدم طريقة تلوين مشابهةً لما طوّره فرويد، واستطاع إثبات صحّة كلامه من خلال التّجارب على أعصاب العديد من الحيوانات.
يعد العصبون اليوم حجر الأساس في علم الأعصاب الحديث. وبالرّغم من أن ملاحظات فرويد كتبت في أعظم إنجازٍ لكاجال في كتاب "الجهاز العصبيّ عند الإنسان والفقاريّات" "Histology of the Nervous System of Man and Vertebrates" كدليل على وجود العصبونات،إلا أن مشاركته في تطوّر هذه الفكرة كانت منسيّةً تماماً، لأنّ إنجازاته في التّحليل النّفسيّ أصبحت طاغيةً تماماً على رحلته العلميّة.
المصادر: