كتاب > روايات ومقالات
مراجعة رواية (مُذلّون مُهانون): الصّرخات الخالدة
"الحقيقة هي أنّ مجانين دوستويفسكي ليسوا مجانين إلى الحدّ الذي نتوهّمه لأول وهلة، كل ما هنالك أنهم ما لا نجرؤ أن نكونه وأنهم يُظهرون إلى النور ما نكبته نحن في ظلمات اللاشعور، أنهم نحن إذا لوحظنا ورُصدنا من الداخل "*
تتجلى مجدداً عبقرية دوستويفسكي في رسم لوحاتٍ لشخصياته المضطربة تسبر أغوارهم في أعمق منحدرات اللاوعي وأكثرها خفاءً وغموضاً، ليأخذنا من خلالها في دروبٍ أبعد من الخير والشر، فما الخير إن لم يكن الحب بأسمى أشكاله وأكثرها نبضاً بالحياة ؟ ولكن ألا ينطوي جوهر الحب على أنانية مطلقة ؟ أليست التضحية في الحب شراً على المضحّي يدمي قلبه الجريح ويجعله يرى العالم بارداً قاسياً ظالماً مليئاً بالعذاب ؟
من هنا فإن دوستويفسكي ينسج روايته التي تجري أحداثها في شوارع سان بطرسبرغ عام 1861 على مستويين، تتكرر الأحداث فيهما وتتداخل بمحض صدفة تتشعب منها الحوادث لتكشف النقاب عن جريمة على وشك أن تتكرر أمام عيني البطل الكاتب، لكن الجريمة هذه المرة ليست كجريمة رواية " الجريمة والعقاب" أو "الأخوة كارامازوف" ، بل هي جريمة من نوع آخر، جريمة لا يعاقب عليها القانون، جريمة كانت ضحيتها في المرتين فتاة أحبت بتطرّف، فتاة أعطت قلبها لحبيبها، ووصل بها الوجد أن تهجر أهلها وتهرب مع محبوبها مضحية بكل شيء، بدون شك أو تردد لشدة ما وثقت به. وإن كان المجرم واضحاً في المرة الأولى، فهو يترك في المرة الثانية الحكم للقارئ فيما إذا كان الأمير هو السبب الحقيقي وراء هجر ابنه اليوشا لمحبوبته ناتاشا أم أن اليوشا بانقياده لأهوائه وضعفه الطفولي قد ظلم ناتاشا وحكم عليها بالعذاب.
لكن دوستويفسكي يسقط الضوء أيضاً على ردة فعل المحيط تجاه العلاقة المحرمة، فمن بطل الرواية الذي يتحول لصديق وفي لناتاشا في قصة حبها بعد أن كان خطيبها مضحياً بسعادته لأجلها، إلى الأمير الذي يعارض ذلك الزواج مانعاً إياه بالخبث والحيلة تارة وبالتهديد المباشر أحياناً أخرى، وانتهاء بشخصية أخمنيف والد ناتاشا الذي وجد نفسه مهجوراً من قبل فتاته الصغيرة التي أحبها أكثر من أي مخلوق آخر وقد أصبحت امرأة ولم تعد بحاجته، فهل يستطيع أن يغفر لها؟
ولعل أكثر جوانب الرواية إثارة للعاطفة، هي قصة الفتاة نللي التي ولدت من رحم الظلم والمعاناة لتتسول في طفولتها تنفيذاً لوصية أمها التي أمرتها وهي على فراش الموت ألا تذهب للأغنياء وتفقد كرامتها لهم ولو استجدت المارة في الشارع، فرغم أن الحياة ظلمتها وآلمتها كثيراً أرادت أن تموت بشموخ وكبرياء، فهل حقاً كانت ميتة متوجة بالكرامة ؟
إنها رواية عن الظلم، عن المغفرة، عن الحب والتضحية، تسيل من حروفها الكثير من الدموع، وتخرج الصرخات مدوية من صفحاتها حية في ضمائرنا، خالدة في قلوبنا إلى الأبد.
* من مقدمة الرواية
المؤلف: فيودور دوستويفسكي
المترجم: د.سامي الدروبي
دار النشر: دار ابن رشد للطباعة والنشر
عام الاصدار:1985
الخطوط والغلاف: عماد حليم
عدد الصفحات: 553