الفلسفة وعلم الاجتماع > علم الاجتماع
الحاجة الجنسية: من الحرية إلى الكبت
تاريخ الفعل الجنسي:
لا نعلم على وجه التحديد طبيعة العلاقات الجنسية لدى الإنسان الأول؛ لكنه حتمًا لم يكن يهتم بما ندعوه اليوم (الزواج)، ولم يكن يعرف مثلًا مشاعرَ الغيرة والإخلاص والوفاء، ومن ثَمَّ فهو حتمًا لم يعرف العلاقة بين الفعل الجنسي وفعل (إنجاب الأطفال)، ولذلك فإنَّ الإنسان الأول قد افترض أنَّ الأطفال يأتون عن طريق السحر وبعض الفضل من الآلهة؛ ومن هنا شاعت عبارة «الأطفال هبة الله»؛ وما زال سكان أستراليا الأصليون لا يدركون العلاقة بين الفعل الجنسي والإنجاب.
تُعدُّ الغيرة الجنسية من القضايا الاجتماعية المسلَّم بها في وقتنا الحالي؛ لكن يصعب علينا فهم كيف استطاع الإنسان البدائي التحرر منها، وفي الأغلب هو لم يصورها كذلك؛ بل خضعت لتأويلات متعلقة بالحيز المكاني والحافز الاجتماعي؛ فكيف هذا؟
إنَّ أقوى فرد في القبيلة كانت له حصة الأسد من الإناث، وعندما يكون أمهر الصيادين فإنَّه يحق له احتكار أجمل الإناث تمامًا كما يُسمَح له بأخذ أفضل قطعة لحم؛ ومن ثَمَّ فإنَّ في هذا تعزيزًا لنفوذه وسطوته داخل القبيلة، ولذلك كان يستاء من أي محاولة لسرقة أنثاه؛ لأنَّ في ذلك تهديدًا لمكانته ونفوذه الاجتماعي وليس بسبب غيرته عليها.
وقد كانت ظاهرة (إعارة الزوجات) ظاهرةً طبيعية؛ بل إنَّ (الإسكيمو) ما زالوا يمارسون هذه العادة مع الضيوف!
يمكننا إذن بلورة حالة الإنسان البدائي من الناحية الجنسية بأنَّه كائن انصرف انصرافًا مطلقًا إلى البحث عن مسببات الحياة ومحاربة الطبيعة، ولم يكن ثَمَّة شيء آخر يشغل باله؛ فصنف تصرفه الجنسي كباقي التصرفات الحياتية الأخرى التي اعتاد تأديتها يوميًّا.
برزت نقطة المنعطف عندما تفتحت مخيلة الإنسان بتعلمه التفكير؛ فعندما لم يكن هناك أمر يشغل حياة الفرد كان ينصرف إلى التخيل والتأمل، وبرزت بعد ذلك فكرة الصراع وجاءت بعدها فكرة القائد أو الملك، واخترع الإنسان الآلهة ثم عين الكهنة لخدمتها، وبذلك تحولت العلاقات القبلية من علاقات ودية إلى مجتمعات مقسمة إلى طبقات، وأصبح القادة فخورين بمواقعهم وصارت إناثهم ملكًا لهم، وأيُّ محاولة لسرقة الزوجة أو إغوائها تُعدُّ إهانة؛ فنجد مثلًا أنه حين سرق (باريس) هيلانة من طروادة قضى اليونانيون عشرات السنين يثأرون لهذه الإهانة!
الحاجة الجنسية من الحرية إلى الكبت:
من الطبيعي أن يكون لدى الإنسان حاجات أولية؛ حاجات فطرية أو حيوانية أو غرائز أو دوافع بدائية. وما يميز الإنسان عن الحيوان في هذا هو القدرة على التحكم بهذه الغرائز إلى درجة معينة؛ سواءً في كيفية الإرضاء أو كميته أو زمنه ودرجة تكراره، وقد تصل قدرته إلى حد رفض سد حاجة معينة.
كما علمنا سابقًا؛ فإن عملية إرضاء الحاجات الجنسية أو الجماع كانت عملية حرة، وكان الزواج بمعنى الجماع لا بمعنى عقد زواج كما هو سائد اليوم في المجموعات البشرية؛ فكانت كل نساء المجموعة متزاوجة مع جميع رجالها والإنسان يؤدي هذا النشاط كأي نشاط حياتي آخر دون معوقات.
وبعدئذ ومع تطوُّر المجتمع البشري؛ حدث أول تعقيد لعملية الممارسة الجنسية ووضع أول قيد لها؛ وهو تحريم العلاقات بين الآباء والأبناء ذكورًا وإناثًا؛ لكنَّ الزواج بقي محتفظًا بصفته الجماعية وبقي كذلك عندما وضع ثاني قيد له؛ وهو تحريم العلاقات بين الإخوة والأخوات وغير الإخوة والأخوات.
ومهما كانت الأسباب التي دفعت البدائيين إلى وضع هذين التحريمين (ولعل الرغبة في توسيع القرابة مثلًا هي السبب، أو فارق السن فيما يخص التحريم الأول، أو لعله تنظيم النشاط الجنسي، وتقليل الإسراف فيه)؛ لكن هذين التحريمين -على كل الأحوال- قادا إلى صعوبة استمرار الزواج الجماعي، وأحيانًا كثيرةً إلى استحالته.
يحدثنا فرويد في كتابه (طُوطِم وتابُو) بأنَّ الإنسان البدائي كان ينسب نفسه وعشيرته إلى طُوطِم، وهو في العادة حيوان أو نبات أو قوة طبيعية وكان يعده حاميه؛ وحيث كان هناك (طُوطِم) كان يحرم على جميع أبناء الطُّوطمِ الواحد الدخول في علاقات جنسية مع بعضهم البعض؛ فإذا كان الانتساب عن طريق الأم (أو ما يُعرَف بالـ(ماتريركية))؛ يكون الجماع محرمًا بين الأم وأبنائها ومحللًا بين الأب وبناته؛ أمَّا إذا كان الانتساب عن طريق الأب (وهو ما يُعرَف بالـ(بطريركية))؛ فيكون الجماع محرَّمًا بين الأب وبناتِه، ومسموحًا بين الأم وأبنائها، وطبعًا في كلتا الحالتين كان الجماع محرَّمًا بين الإخوة والأخوات.
وفي العصورِ اللاحقة؛ أي بعد اكتشاف المعادن ساد ما يُسمَّى (الزواج الثنائي) الذي يكون بعلاقة جنسية رئيسية بين رجل واحد وامرأة واحدة؛ إضافة إلى علاقة جانبية لكل منهما (وقد يقتصر هذا الحق على الرجل فقط) مع حق كليهما في الانفصال لأي سبب وفي أي وقت؛ فلم يكن هناك زواج مدى الحياة. لكن في فترة الزواج الثنائي حدث تطوُّر آخر يتمثل في زيادة سلطة الرجل؛ ومن ثَمَّ زيادة طموحه إلى الاستئثار بالمرأة؛ فتكون له وحده دون غيره من الرجال.
وهكذا ظهرت الأسرة الأحادية (البطريركية) مع بداية الحضارة الأسرة المؤلفة من رجل واحد وامرأة واحدة. ومع هذا النمط من العلاقات الجنسية كان التقييد الجنسي في أوجه ظهرت الخيانة والدعارة ولم يكن الزواج أحاديًّا إلا بالنسبة للمرأة؛ في حين أن الرجل كان يتمتع بفوائد الزواج الجماعي.
ولذلك نُلاحِظ أن تطوُّر العلاقات الجنسية منذ بدء البشرية وحتى عصور الحضارة؛ قد رافقه تطوُّر في سد الحاجة الجنسية من الحرية المطلقة وحتى الكبت النسبي؛ فصاحبه تطوُّر في مكانة المرأة في المجتمع من الناحية العملية؛ من مساواتها بالرجل تمامًا في مختلف مناحي الحياة، إلى التبعية والعبودية أحيانًا كثيرة.
المصادر:
- الجنس والشباب الذكي - كولن ولسون، ترجمة: أحمد عمر شاهين - مركز الحضارة العربية.
- الثالوث المحرم - بوعلي ياسين - دار الطليعة – بيروت - 1978.