كتاب > روايات ومقالات
مراجعة رواية (صخرةُ طانيوس): القَدَرُ الأَشْيَب
«كان يُلقَّبُ بطانيوس الكشك، وقد جلس على هذه الصخرة، ثم توارى عن الأنظار».
قد يبدو غريبًا ما اقتبسَه الكاتبُ من كتابِ (الإشراقات) لـ(آرتور رامبور)، موطّئًا للقارئَ رحلةً لم يشهدْها من قبل. مازجًا التاريخَ بالأساطير، حاك أمين معلوف عملًا أدبيًّا ينهشُ جزءًا من الذاكرةِ ليحتلَّها أبدًا. رواية (صخرةُ طانيوس)، ترجمة نهلة بيضون عن نسختِها الفرنسيةِ ذاتِ التسعةَ عشرَ (عبورًا). وقد استعاض معلوف عن كلمةِ (فصل) أو (قسم) بـ(عبور)؛ للدلالة على التمهيد؛ فكلُّ مرحلةٍ هي عبورٌ أو تمهيدٌ لما يليها. وفي روايتِه هذه، التي تستندُ في مراجعِها إلى عدةِ شخوص، كان حمْلُ لميا هو العبورَ الأولَ لقصةِ طانيوس. لميا الفتاةُ الجميلةُ التي تنْحِتُ وجنتَيْها غَمّازتان جميلتان تعانقان دموعَها عندما تبكي، وهي زوجةُ جريس وكيلِ قصرِ الشيخ فرنسيس في قريةِ (كفر يبدا). لقد عُرف عن الشيخِ أنه لا يَعيبُه سوى أمرٍ واحد؛ النسوان! رغمَ المحاولات، لم يستطعْ أحدٌ أو شيءٌ إبطالَ عادتِه هذه، وسيكون هذا العاملُ شرارةَ مُجْرَيَاتِ القصةِ وما تَؤولُ إليه من أحداثٍ غيرِ متوقَّعة، كما أنه السببُ الرئيسيُّ وراءَ تلقيبِ طانيوس بالكشك. لكنّ رأسَ طانيوس الأشيبَ كان نذيرًا كافيًا لشؤمِ الآتي؛ إذْ كان ثَمَّة اعتقادٌ بأنّ ذوي الرؤوسِ البيضاءِ هم شخصٌ واحدٌ، يتجلّى في عدةِ أجسادٍ في أزمنةٍ مختلفة.
استَخدم الكاتبُ راويًا من زمنٍ آخرَ لا يؤمنُ بالأساطير، ويسعى إلى معرفةِ سببِ امتناعِ أهالي القريةِ عن الاقترابِ من تلك الصخرة؛ صخرةِ طانيوس. فيبحثُ في مخطوطاتِ الجبلِ للراهبِ إلياس، ويسألُ مُسِنَّ القريةِ جبرايل، ويقرأُ ما كتبَه إسحق؛ القَسُّ الإنجليزي الذي افتتح مدرسةً واظب طانيوس على ارتيادِها (وقد لعب القَسُّ دورًا مهمًّا في حياةِ طانيوس). إلا أنّ الثلاثةَ مصادرَ التي استَخدمها تنتهي عند اختفاءِ طانيوس. وحدَه البغَّال -الذي دوّن يومياتِه على ظهرِ بغلِه، وقد سُمّيت لاحقًا (حكمةَ البغّال)- ذكرَ طانيوس ذِكْرًا أخيرًا، أو ربما كان يهذي!
سنرى أننا عندما نلامسُ قدسيةَ الأساطيرِ بأيدينا متحَدِّين القدرَ المرسوم؛ يتلاشى كلُّ شيء. وأنّ الخوفَ هو ما يُرسِّخُ مصيرًا ما، ويدحضُ آخر؛ فمذ اختفى طانيوس، لم يجرؤْ أحدٌ على الجلوسِ على تلك الصخرة، فهل يعني ذلك أنّها تبتلعُ أثرَ مَن يجلسُ عليها بالضرورة؟ الخوفُ من تلك الأسطورةِ لم يَحْمِ من شيء، بل منعَ الجميعَ مِن رؤيةِ الكونِ مِن أعالي الجبل.
تعْرِضُ هذه الروايةُ رؤيةً مختلفةً لحدثِ اغتيالِ البَطْرِيَرْكِ في القرنِ التاسعَ عشر، على يدِ شخصٍ يدعى (أبا الكشك معلوف). وقد استخرج أمين معلوف من هذه الواقعةِ ما يفوقُ تصوُّراتِ القارئ، منهيًا الروايةَ بأنها «محضُ خيالٍ فاسد».. فهل هي حقًّا كذلك؟
في هذا «الخيالِ الفاسد»، حدثتْ إضراباتٌ وتكاتُفات، وُلد أناسٌ وقضى نحبَهم آخرون، تجلَّى السلوكُ الاجتماعيُّ للفردِ والجماعةِ في صورٍ مختلفة، مظهرًا أنّ الأمورَ أكثرُ تعقيدًا مما هي عليه، وأقلُّ تعقيدًا من أنْ نجلسَ مكتوفِي الأيدي نراقبُ بصمت. فمهما كان قرارُك أو اختيارُك، ستواجهُ عقباتٍ معك وعليك؛ إذْ إنّ الحياةَ لا تخضعُ لكتيّبِ إرشادات، ولا مكانَ فيها للـ(جوابِ الصحيحِ) أو القرارِ الصحيحِ، بل هناك مكانٌ للقرار، هناك مكانٌ للفعل. والذي يعملُ وفي داخلِه الخير، حتمًا سيتحرّرُ خيرُه هذا يومًا ما، من أقفاصِ النفْسِ إلى مصلحةِ الجماعة.
معلومات الكتاب:
دار النشر: دار الفارابي.
عدد الصفحات: 296 صفحة.
الرقم الدولي: 9961-903-37-4