الرياضيات > الرياضيات
أنظمة العد عبر التاريخ (الجزء الأول)
حَسَنٌ، كما أنّ هناك الكثيرَ من اللّغات حول العالم، وكما أنّ هذه اللّغاتِ ليست وليدةَ البارحةِ بلْ تطوّرت عبر العصور بحَسَبِ تطوّر حضارات الشّعوب المتحدّثة بها، فكذلك الأمرُ بالنّسبة للأرقام والمعاني الّتي تفيدُها التّراكيبُ الرّقميّةُ (أوِ الأعدادُ)، حيث إنّ شعوب الحضارات المختلفة استعملت رموزاً مختلفةً للتّعبير عن الأرقام، كما تطوّرت لديها عبر العصور أنظمةٌ مختلفةٌ للتّعامل مع تلك الرّموز وتشكيلِ الأعداد باستخدامها. فعلى سبيل المثال، حتّى لو أعطينا إحدى الحضارات الرّموز نفسها الّتي تستعملها حضارةٌ أخرى للتّعبير عن الأرقام، فقد لا تتّفق الحضارتان على كتابة عددٍ ما بالطّريقة نفسها، وذلك يحدّده النّظامانِ المُعتَمَدانِ في تلك الحضارتين. ويُطلَقُ تعبيرُ أنظمةِ العدِّ على هذه الأنظمة أو الطّرق الخاصّة للتّعبير عن الأعداد من خلال رموزٍ معيّنةٍ تُعتَبَرُ اللَّبِناتِ الأساسيّةَ فيها.
ولكي نستطيع إلقاءَ الضّوء على أنظمة العدّ الّتي اعتُمِدت في بعض الحضارات القديمة، علينا أوّلًا التأكّدُ من فهمنا لنظام العدّ الّذي نستخدمه في يومنا الحاضر، والاطّلاعُ على بعض أنظمة العدّ المشابهة له.
نستخدم اليومَ ما يسمّى نظامَ العدّ الهِندو-عربيَّ، والّذي يحتوي على عشْرَةِ رموزٍ -أو أرقامٍ- من الصّفرِ إلى التّسعةِ. سُمّي هذا النّظامُ بذلك الاسمِ لأنّ رموزَه تُنسَبُ إلى الهنود مِئتَي عامٍ قبلَ الميلاد، والّتي اعتمدها العرب لاحقًا، وانتقلت في نهاية المطاف إلى إسبانيا حيث ظهرت في القرن العاشرِ الميلاديّ نسخةٌ منها تشابه تلك الّتي نستخدمها اليومَ. تطوّرتِ المراحل الأولى من هذا النّظام تحت تأثير متطلّباتِ المِلَاحَةِ، والتّجارةِ، والهندسةِ، والشّؤونِ العسكريّةِ. وفي بدايات العصر الحديث، أدّى تطوّرُ علم الفلك ومجموعةٌ من العلوم الأخرى إلى تطوّرِ بُنْيَةِ هذا النّظام بشكلٍ يَسمَح بإجراء العمليّات الحسابيّة الدّقيقة والسّريعة. قدّم الرّياضيّ العملاق Leonardo Fibonacci هذا النّظامَ بِبُنْيَتِهِ التَّمَوضُعِيَّةِ الّتي نعرفها اليومَ إلى الغرب في بدايات القرن الثّالثِ عَشَرَ الميلاديِّ، ولكن لم يُعتَمَدْ هذا النّظامُ برموزه وبنيته كنظامٍ موحّدٍ إلى أنِ اختُرِعَتِ الطّباعةُ في القرن الخامسِ عَشَرَ الميلاديِّ.
ماذا يعني أن تكون بنيةُ نظامِ عدٍّ ما تموضعيّةً؟ بل ما هي بنية نظام العدّ إن لم تكن رموزَه نفسَها؟
عندما نلقي نظرةً على عددٍ مُمَثَّلٍ بنظام عدٍّ تموضعيّ، نلاحظ أنّ الرّموزَ المُكوِّنةَ لهذا العددِ (الأرقامَ) تَصْطَفُّ في ترتيبٍ معيّنٍ لا يشترك فيه هذا العدد مع أيِّ عددٍ آخرَ، قد يشترك هذا العدد مع عددٍ آخرَ في الرّموز ولكنْ ليس في ترتيبها. فعلى سبيل المثال، العددانِ 563 وَ 356 في النّظام الهندو-عربيِّ مكوّنانِ من الرّموز نفسِها ولكنّ اختلافَ تموضع هذه الرّموز هو ما يعطي العددين قيمَتَيهِما المختلفتينِ. نسمّي المواضعَ الّتي تشغلها الرّموزُ بالخاناتِ.
ونعلم أنَّ الخانةَ الأولى من اليمينِ في عددٍ مُمَثَّلٍ بالنّظام الهندو-عربيِّ هي خانة الآحاد، والّتي تليها هي خانة العشرات، والّتي تليها هي خانة الآلافِ وهكذا. ولكنْ ماذا يعني ذلك؟
لِنناقِش العدد 2،735،809 مثالًا:
نلاحظ أنّ:
2،735،809 = 9 + 0 + 800 + 5،000 + 30،000 + 700،000 + 2،000،000
والذي يمكن كتابته بالشّكل الآتي:
2،735،809 = (9x1) + (0x10) + (8x100) + (5x1،000) + (3x10،000) + (7x100،000) + (2x1،000،000)
إنَّ هذا العدد ليس إلّا مجموعَ أعدادٍ كلٌّ منها عبارةٌ عن جُداءِ أحد أرقام عددِنا في قيمة الخانةِ التي يشْغلها ذلك الرّقم، فالرّقَمُ 5 في عددنا يَشغَل خانةَ الآلاف فيُضرَبُ بالعدد 1،000 ، والرّقمُ 2 في عددنا يشغل خانة الملايينِ فيُضرَب بالعدد 1،000،000 ، وهكذا تُضرَب أرقام العدد جميعُها كلٌّ منها بقيمة خانتِهِ، ثمّ تُجمَع المضاريبُ فنحصل على عددنا. ولكنْ منَ الجدير بالملاحظة أنّ قيمَ الخانات ما هي إلّا القِوى الصحيحةُ* للعدد 10 ، حيث إنّ:
لذلك يُسمى نظامُ العدّ الهندو-عربيُّ بـ نظامِ العدِّ العشريّ، ويدعى العدد 10 الأساسَ لهذا النّظام. بالعودة إلى تعريف نظام العدّ التّموضعيّ، كلّ رمزٍ (رقمٍ) في عددٍ مُمَثَّلٍ بنظام عدٍّ تموضعيٍّ يفيد إفادتينِ:
• القيمةِ الوجهيّةِ: وهي القيمة المرتبطة بالرّمز أيًّا كان موضعُه، فعلى سبيل المثال في نظام العدّ الهندو-عربيِّ يوجد عشْرُ قيمٍ وجهيّةٍ، وهي قيم رموز نظام العدّ من الصّفر وحتّى التّسعة.
• القيمةِ الموضعيّةِ: وهي قيمة قوّة أساس نظام العدّ التّموضعيّ المرتبطةِ بالموضع (الخانةِ) الّذي يشغَلُه الرّقم في العدد المُمَثَّلِ بنظام العدّ التّموضعيّ، فمثلًا، القيمة الموضعيّة للرّقم 5 في العدد 1،523 في نظام العدّ الهندو-عربيِّ هي القيمة 100 وهي قوّة الأساس 10 المتعلّقةُ بالخانة الثّالثة، خانةِ المئاتِ.
يجدر بالذّكر أنّ عدد القيم الوجهيّة في نظام عدٍّ تموضعيٍّ ليس بالضّرورة مساويًا عددَ رموز ذلك النّظام أو قيمةَ أساسِه، وخيرُ مثالٍ على ذلك نظامُ العدّ البابليّ، حيث إنّه نظام عدٍّ تموضعيٍّ سِتّينيٍّ -أي أنّ أساسَه هو العددُ 60- ولكنْ عدد قِيَمِهِ الوجهيّة 59 لعدمِ وجود قيمةٍ تمثّل الصّفرَ، وعدد رموزه اثنانِ فقط! سنتحدّث عن نظام العدّ البابليّ بالتّفصيل في الجزء الثّاني من المقال[1].
من أنظمة العدّ التّموضعيّة المستخدمة بشكلٍ كبيرٍ في يومنا الحاضر أنظمةُ العدّ الثّنائيُّ والثّمانيُّ والسّتُّ عُشْريّ، وسُمُّوا كذلك نسبةً لأساساتِهم، حيث إنّ أساس نظام العدّ الثّنائيّ هو العددُ 2، وأساس نظام العدّ الثّمانيّ هو العددُ 8، وأساس نظام العدّ السّتّ عشريّ هو العددُ 16. نظام العدّ الثّنائيّ يحوي رمزين فقط: الصّفرَ والواحدَ، وقيمتاهُما الوجهيّتانِ تساويانِ قيمتَيهِما الوجهيّتينِ في نظام العدّ العشريّ، أمّا نظام العدّ الثّمانيّ فيحوي ثمانيةَ رموزٍ هي الأرقامُ من الصّفر إلى السّبعة، وقيمُها الوجهيّةُ تساوي قيمَها الوجهيّةَ في نظام العدّ العشريّ أيضًا، أمّا نظام العدّ السّتّ عشريّ فيحوي ستّةَ عشرَ رمزًا، وهي الأرقامُ من الصّفر إلى التّسعة وثمّ الأحرفُ الإنكليزيّةُ من A إلى F، أمّا قيمُ رموزه الوجهيّة فبالنّسبة للأرقام قيمُها الوجهيّةُ تساوي قيمَها الوجهيّةَ في نظام العدّ العشريّ أمّا قيمُ الأحرفِ الوجهيّةُ فتُعطى بالشّكل الآتي:
‘A’ = 10 ‘B’ = 11 ‘C’ = 12 ‘D’= 13 ‘E’ = 14 ‘F’ = 15
والسّبب وراءَ كثرة استخدام أنظمة العدّ هذه هو دورُها الأساسيّ في علم الحاسوب، حيث إنّ الحاسوب يمثّل جميع البيانات الّتي يعالجها أو يخزّنها على شكل سلاسلَ من الأصفارِ والواحداتِ. فعلى سبيل المثال لا الحصرِ، هنالك ما يُسَمَّى بجدول ASCII، وهو عبارةٌ عن جدولٍ يحوي الكثير من المحارف الّتي يمكن إدخالُها إلى الحاسوب، ويقابِل كلُّ مَحْرَفٍ في هذا الجدول سلسلةً من الأصفار والواحدات لا يقابِلها محرَفٌ غيرُه في هذا الجدول[2]. ويمثِّل الحاسوبُ هذه القيمَ بشكلٍ فيزيائيٍّ بمقابلة كلّ صفرٍ بانقطاعٍ للتّيار الكهرَبائيّ في إحدى داراتِه الصِّغَرِيَّةِ وكلّ واحدٍ بمرورٍ للتّيار الكهربائيّ في إحدى داراته الصّغريّة[3].
ولمعرفة القيمةِ العُشْرِيّةِ لعددٍ ما مُمثَّلٍ بإحدى هذه الأنظمة، نقوم بعمليّة جمعِ مضاريبِ القيَمِ الوجهيّةِ بالقيم الموضعيّة لأرقامِ هذا العدد. والقيمةُ العشريّةُ لعددٍ ليست إلّا قيمتَه العدديّةَ ممثَّلَةً بالنّظام الهندو-عربيّ أو العشريّ، فعلى سبيل المثال:
حيث إنّ العدد الموجود أسفل القوس اليمينيّ من الخارج هو أساس نظامِ العدِّ المُمَثَّلِ به العددُ الموجود بين القوسين[2].
في الواقع يُمكِن لِأيِّ عددٍ صحيحٍ موجبٍ أكبرَ منَ الواحدِ أنْ يشكِّل أساسًا لنظام عدٍّ تموضعيٍّ، حيث يمْكِننا تمثيل الأعداد بأنظمة العدِّ الخماسيِّ والسّداسيِّ والسّباعيِّ بلْ والمئويِّ إنْ أردنا، وبالطّبع سيختلف عدد الرّموز في كلّ نظام عدٍّ بحَسَبِ أساسه. نلاحظ هنا أنّ العدد 10 يفيد معانيَ مختلفةً، حيث أنّه يمثّل العددَ 2 في نظام العدّ الثّنائيّ، والعددَ 3 في نظام العدّ الثّلاثيّ، والعددَ 5 في نظام العدّ الخماسيّ، والعددَ 10 في نظام العدّ العشريّ[4].
بلْ وهنالك بعض الدّاعين لاستبدال نظام العدّ العشريّ الّذي نستعمله اليومَ بنظام العدّ الِاثنيْ عَشَرِيِّ اعتقادًا أنّه سيسهِّل علينا الحساباتِ في حياتنا اليوميّة[5].
ولكن ليستْ نظمُ العدّ جميعُها نظمَ عدٍّ تموضعيّةٍ، بلْ وإنِّها لم تكن دومًا بتعقيد نظام العدّ الهندو-عربيِّ الشّائعِ استعمالُه اليوم. حيث مُنْذُ فجر التّاريخ، عندما بدأ البشر الأوائلُ بزرع المحاصيل وتربية المواشي، بدؤوا بإدراك الحاجة إلى العدّ، فقاموا بإحصاء عدد خرافهم مثلًا بمطابقة حصاةٍ واحدةٍ مع كلّ خروفٍ. ثمّ أخذتْ فكرةُ الأرقامِ تزداد تجريدًا لديهم عن طريق ملاحظة أنّ هناك شيئًا مشتركًا بين مجموعةٍ مؤلّفةٍ من ثلاثة كلابٍ ومجموعةٍ مؤلّفةٍ من ثلاثِ دجاجاتٍ مثلًا، ألا وهو العددُ ثلاثة! ويبدو أنّ البشر قاموا بالعدّ باستعمال العصيّ قبل عدّة آلافٍ من السّنينِ، ولا نزال نستعملها إلى يومنا هذا بعضَ الأحيانِ، وهو العدُّ بحفر خطوطٍ على عصاةٍ، خطٍّ لكلّ واحدةٍ يُرادُ عدُّها، أمّا الصّيغةُ الّتي نستعملها اليومَ أحيانًا هي رسم خطوطٍ بجانب بعضها حتّى إذا بلغت خمسةً يُرسَمُ الخامسُ مائلًا على الأربعةِ الّتي تسبقه، وهكذا يتشكّل لدينا عددٌ من المجموعات الّتي كلٌّ منها يحوي خمسةَ خطوطٍ ومجموعةٌ واحدةٌ على الأكثر تحوي أقلَّ منْ خمسةٍ، فعلى سبيل المثال يظهر العدد 4 على الشّكل :
كما يظهر العددُ 12 على الشّكل :
تطوّرت بعدها أساليب العدّ وازداد تعقيدها بحَسَبِ تطوّر الحضارة البشريّة، فبشكلٍ أو آخرَ نستطيع فهم الكثيرِ عن الحضارات المختلفة عن طريق التّعرف على الحسابات الّتي كانت شعوبها تقوم بها في حياتِها اليوميّةِ وأنظمة العدّ الّتي كانت تستخدمها[1]. في الجزء الثّاني من المقال سنلقي الضّوء على نظم العدّ المستخدمة في بعض الحضارات القديمة كنظام العدّ المصريّ القديم (هنا)، ونظام العدّ الرّومانيّ، ونظامَيِ العدّ الإغريقيَّيْنِ القديمِ والحديثِ، ونظام العدّ الصّينيّ القديم، ونظام العدّ البابليّ، ونظام عدّ المايا، وسنناقش التّفاوت بينها من حيثُ بساطتِها وفاعليَّتِها.
* ) القِوى الصحيحةُ لعددٍ ما x هي مجموعة الأعداد الّتي يَنتُج كلٌّ منها برفع العدد x إلى أُسِّ عددٍ صحيحٍ.
الأعداد الصّحيحة هي الأعداد الّتي نعدّها بشكلٍ عاديٍّ وأمثالها السّالبة، وتُمثَّل رياضيًّا بالشّكل:
{…، -2، -1، 0، 1، 2، 3، …} [6].
رفعُ العدد x لِأُسِّ عددٍ n يعني ضرْبَ العدد x بنفسه n مرّةً. وأيُّ عددٍ -عدا الصّفرَ- مرفوعٍ للأسِّ صفرٍ يساوي الواحد ، أيِ القُوّةُ الصّفريّةُ لأيّ عددٍ عدا الصّفرَ تساوي الواحدَ.
فمثلًا:
نلاحظ أنّ العدد خمسةً مرفوعًا للأسّ أربعةٍ يساوي جُداءَ أربعِ خمساتٍ، وأن الأعداد المختلفة عند رفعها للأسّ صفرٍ أصبحت مساويةً للواحد[7].
المصادر:
[1] هنا
[2] هنا systems.pdf
[3] هنا
[4] هنا
[5] هنا
[6] هنا
[7] هنا