منوعات علمية > العلم الزائف
لماذا يَقبل البعض العلوم الزائفة والترهات أكثر من غيرهم؟ (الجزء الأول)
"إن نظرية الكليّة العدمية في التاريخ، تتنبأ بمستوى الطاقات السلبية المنبعثة من المجتمع!"
"هل تعلم! إن عشبة الألوكسانديانا التي لا تنمو سوى في جبال الشاغانازالا الهندية لها قدرةٌ على شفاء سرطان المبيض العضلي، وذلك عن طريق الحقول نصف النانو-كوانتية التي تنتجها عن طريق عنصرٍ نادرٍ موجودٍ فيها هو السوسانيوم، وقد اكتشف هذه الخاصية الفريدة العالم راباروف من ألمانستان!!!!!" مهلاً، مهلاً، ما هذا الكلام؟! حسناً، العبارة الأولى مؤلفةٌ من مجموعةٍ من المفردات لا تشكل بمجملها أي قيمةٍ علميةٍ وإنما قمت باختراعها وأنا أكتب هذا المقال، أما الثانية فإنها في الواقع جملةٌ تتحدث عن "معلومة"، وهذه المعلومة تخص نبتةً لا وجود لها تنمو في جبالٍ لا وجود لها وتعالج مرضً لا وجود له، بآليةٍ غير موجودةٍ (فلا يوجد شيءٌ يُسمى "الحقول نصف النانو-كوانتية) تحوي على عنصرٍ كيميائيٍ لا وجود له اكتُشِفت عن طريق عالمٍ لا وجود له ينتمي إلى بلدٍ غير موجودٍ على الخريطة وقد اخترعتُ العبارة الثانية عندما كنتُ في حافلةِ نقلِ الركاب وقد أبدى جزءٌ منهم-من الركاب- قبولاً نسبياً لها!
لماذا هذا يا تُرى؟ كيف لعبارةٍ مُختَلقَةً لا معنى حقيقي لها أن تلقى قبولاً لدى البعض؟ في الواقع لا يمكنني أن أتكهن بالإجابة عن طريق تجربتي الشخصية في الحافلة، فهذه التجربة لم تخضع لأي معيارٍ حقيقي من معايير البحث العلمي الصارمة، لكن ولحسن الحظ، فإن مجموعةً من العلماء في جامعة Waterloo في كندا قدموا ما يُمكن أن يُعد أول دراسةٍ تجريبيةٍ عن السبب الذي يدفع بعض الناس لتصديق "الهراء" أكثر من غيرهم...
وقبل أن ننطلق في سرد التفاصيل، لا بد أن نقف على تعريف كلمة "الهراء"..
الهراء Bullshit هو عبارةٌ عن عباراتٍ صحيحةٍ قواعدياً وتبدو ذات معنىً عميق لكنها في الواقع لا تحوي معنى حقيقياً. مثالٌ على ذلك ما ذكرناه في أول المقال أو ما أوردته الدراسة نفسها، لنأخذ مثلا هذه العبارة:
"المعاني الخفية تنقل لنا خلاصةً موازية"، فهذه العبارة الخالية من الأخطاء اللغوية لا تحمل معنىً حقيقياً رغم أنها قد تبدو كذلك للبعض.
كيف قام العلماء بتجربتهم لقياس مدى تقبُّل الناس للـ "الهراء"؟
ليختبر العلماء تقبل الناس للـ "الهراء" قاموا باستعمال مولدٍ عشوائيٍ للجمل كي يُشكل عباراتٍ من النمط الذي شاهدناه قبل قليل – يبدو ذا معنىً عميق وخالٍ من الأخطاء اللغوية ومن المعنى أيضاً- ومن ثم طلبوا من 280 مشاركاً من الجنسين أن يُقيِّم هذه العبارات على سلمٍ من 1 إلى 5 حيث يشير الرقم الأكبر إلى معنىً أعمق ويشير الرقم 1 إلى عدم وجود أي معنىً على الإطلاق، وللعلم فإنَّ المشاركين قد خضعوا لاختباراتٍ للتأكد من طلاقتهم في الإنكليزية (وهي اللغة التي سيجري فيها الاختبار) وكذلك اختبارات انتباه (للتأكد من أنهم ذوو انتباهٍ جيد). وبناءً على ما سبق يجب أن نكون مرتاحين إلى أن النتائج لن تصدمنا، فكيف يُعقل أن يُعجَب أحدٌ بعبارةً تم تشكيلها عن طريق مولد جملٍ عشوائي؟!
لكن، وللأسف، فإن التقييم الوسطي الذي أعطاه المشاركون لهذه العبارات كان 2.6 (على سلم من 1إلى5) وقد قيّمَ حوالي %27 من المشاركين هذه العبارات بـ 3 أو أكثر.
ومن ثم وفي تجربةٍ أخرى، أضاف الباحثون إلى عبارات "الهراء" السابقة، مجموعةٍ من المقولات للكاتب Deepak Chopraوللعلم فأحد عناوين كتبه "العلاج الكوانتي" (ولن يكون المرء مضطراً إلى أن يكون طبيباً كي يعلم ألا وجود لعلاجٍ كهذا). وكما هو متوقع فإنَّ تقييم المشاركين في هذه التجربة لم يختلف كثيراً عن التجربة السابقة.
لكن، قد يقول قائل: إن المشاركين قد يكونون ميالين لأن يقيموا أي شيءٍ بتقييمٍ عالٍ، ولذلك فتقييمهم للـ "الهراء" لا يعني أنهم فعلاً يرون فيه معاني عميقة. وتجنباً لذلك، فقد قام الباحثون في تجربةٍ ثالثة، بوضع عباراتٍ عاديةٍ مثل "كل شخصٍ قد يستمتع بنوعٍ من الموسيقا" وهي عبارةٌ صحيحةٌ قواعدياً وذات معنىً واضح ولا تحوي معنىً عميقاً، إضافةً إلى عبارات أخرى عميقة وذات معنى؛ وكانت النتيجة أن تقييم هذه العبارات جاء منخفضاً (أي أن المشاركين لم يروا فيها معاني عميقة) وبالتالي، فالمشاركون لم يكونوا يقيمون كل شيءٍ بتقييمٍ عالٍ.
والمثير للاهتمام، أن المشاركين خضعوا لاختباراتٍ معرفيةٍ متعددة مثل مهارات الحساب، وخاضوا استبياناً لمعرفة التوجهات الروحية، واعتقادهم بنظرية المؤامرة والطب البديل.
والآن، نأتي إلى الزبدة، بماذا ارتبط قبول "الهراء"؟ هل للذكاء علاقةٌ مثلاً؟
وجدت الدراسة أنَّ الذين كان لديهم تقبلٌ للعبارات عديمة المعنى التي ذكرناها (أي قيموا هذه العبارات تقييماً عالياً) كانوا أقل ذكاءً (نقصد هنا تحديداً الذكاء السائل والـ Verbal Intelligence*) وكذلك كان لديهم قبولٌ أكثر لنظريات المؤامرة، وللطب البديل والطب المكمل** ولديهم أيضاً ارتباكٌ فيما يخص الميتافيزيقيا الوجودية (والميتافيزيقيا تعني "ما وراء الطبيعة") وكانوا أكثر تديناً.
إذاً، ما أهمية هذه الدراسة؟
إذا عرفنا ما الذي يجعل الناس أكثر عرضةً لتصديق "الهراء" فقد نستطيع أن نحميهم من ذلك، وبإمكاننا أن نعرف مثلاً ما الذي يجعلهم يقبلون الطب البديل ويُعرِضون عن الطب المبني على الدليل فيرفضون اللقاحات- على سبيل المثال لا الحصر- .
ولذلك أعزاءنا القراء، عندما تتصفحون الـ facebook وتقرؤون عبارةً منمقةً لغوياً، تمهلوا قبل أن تضغطوا زر "أعجبني" فقد تكون العبارة بلا معنى، وعندما تقرؤون معلومةً ما، كونوا في مكان الشك واطلبوا المصدر.
الحاشية:
*الذكاء السائل Fluid Intelligence: هو الذكاء الذي يُمكِّننا من التفكير بشكلٍ منطقيٍّ ومن حلِّ المشكلات التي تواجهنا بغض النظر عن المعرفة المسبقة (وهو مقابل للذكاء المتبلور Crystalized Intelligence الذي يعتمد على المعرفة المسبقة).
Verbal Intelligence : هو المهارة اللغوية التي يستعملها الإنسان للتعبير عن الأمور.
**الطب البديل Alternative Medicine والطب المُكمِّل Complementary Medicine:
كما يُشير الاسم، فالطب البديل يحل بديلاً عن الطب التقليدي (أو ما يُعرف بالطب المبني على الدليل) كتعاطي الأعشاب "الطبيَّة" عوضاً عن الدواء الذي يصفه الطبيب، أما المُكمِّل فهو- كما يشير الاسم أيضاً- يُكمِل الطب التقليدي كتعاطي الأعشاب إلى جانب الدواء الذي يصفه الطبيب دون أن يصف الطبيب هذه الأعشاب.
المصدر:
الدراسة الأأصلية:
Judgment and Decision Making، Vol. 10، No. 6، November 2015، pp. 549–563
مصادر الحاشية:
1- هنا
2- هنا
3- هنا