الفيزياء والفلك > فيزياء
الرّياحُ الكهربائيّةُ ودورُها في تجريدِ الكواكبِ المشابهةِ للأرضِ من مقوّمات الحياة
في دراسةٍ جديدةٍ قامَ بها باحثون من وكالةِ ناسا بمساعدةِ المركبةِ الفضائيّةِ Venus Express التّابعةِ لوكالةِ الفضاءِ الأوروبيّةِ، توصلَ الباحثونَ إلى أنَّ كوكبَ الزّهرةِ يملكُ رياحً كهربائيّةً قويّةً بما يكفي لتجريدِ غلافهِ الجوّيِ من مكوناتِ الماءِ. ولربما لعبَ هذا دوراً مهماً في تجريدِ الكوكبِ التوأمِ للأرضِ من مياههِ.
علّقَ العالمُ كولينسون Collinson* على هذا البحثِ قائلاً: "إنه لأمرٌ مدهشٌ وصادمٌ. لم نحلمْ يوماً أنَّ من الممكنِ للرّياحَ الكهربائيّةَ أنْ تكونَ قويّةً لدرجةٍ كافيةٍ لطردِ الأوكسجين من غلافٍ جوّيٍ إلى الفضاءِ الخارجيِ. هذا أمرٌ يجبُ أنْ نُضيفَهُ إلى لائحةِ الشّروطِ الواجبِ تحقّقها عند بحثِنا عن الكواكبِ المهيأةِ لدعمِ الحياةِ حولَ النّجومِ الأُخرى."
يشبهُ كوكبُ الزّهرةِ كوكبَ الأرضِ في العديدِ من الجوانبِ، منها الحجمُ والجاذبيّةُ، كما يوجدُ أدلةٌ تُشيرُ إلى أنَّهُ كانَ يمتلكُ كمياتٍ من المياهِ بحجمِ المحيطاتِ، وذلكَ في ماضيهِ البعيدِ. لكن حرارةَ سطحهِ التي تبلغُ 460 درجةً مئويّةً كانَت كافيةً لتحويلِ كل هذهِ المحيطاتِ إلى بخارٍ، تاركةً الكوكبَ غيرَ قابلٍ لدعمِ الحياةِ. الغلافُ الجوّيُ لكوكبِ الزهرةِ كثيفٌ جداً وضغطُهُ الجوّيُ أكبرُ بمئةِ مرةٍ من الضّغطِ الجوّيِ الأرضيِ، ومع ذلكَ فإنَّه يحتويُ كميّاتٍ قليلةً من الماءِ؛ أقل ب10،000 إلى 100،000 مرّةٍ من كميّةِ الماءِ الموجودةِ في الغلافِ الجوّيِ الأرضيِ. لا بدَّ أنَّ شيئاً ما قد جرّد الغلاف الجوّيّ من الماء. يسودُ الاعتقادُ بين العلماءِ في الوقتِ الحاليّ بأنَّ القسمَ الأكبرَ من البخارِ النّاتجِ عن تبخّرِ المحيطاتِ قد تحلّلَ إلى مكوناتِ الماءِ (الهيدروجين والأوكسجين). الهيدروجين خفيفُ الوزنِ هربَ من جاذبيةِ الكوكبِ بسهولةٍ، في حينِ أنَّ الأوكسجينَ تفاعلَ معَ صخورِ الكوكبِ وأكسَدَها على مدى مليارات السنين. ثم جاءت الرّياحُ الشّمسيّة، وهي تيارٌ من الغازاتِ الموصلةِ للكهرباءِ، منطلقةً منَ الشّمسِ بسرعةِ مليون ميل في السّاعةِ، ليكونَ لها دورٌ مؤكّدٌ وبطيءٌ في إزالةِ ما تبقّى من الأوكسجين والمياهِ من الطّبقاتِ العليا للغلافِ الجوّيِ.
وأضافَ العالمُ كولينسون: ظننّا في السّابقِ أنَّ هذه الرّياحَ ما هي إلا مسننٌ صغيرٌ في آليةِ إزالةِ الماءِ من كوكبِ الزهرةِ، ولكن تبينَ لنا الآنَ أنَّها عملاقٌ متوحشٌ كانَ قادرً بمفردهِ على تجريدِ كوكبِ الزّهرةِ من مائهِ!"
كلُ كوكبٍ يمتلكُ حقلَ جاذبيّةٍ، والكواكبُ التي تمتلكُ غلافاً جوّياً تمتلكُ حقلاً كهربائيّاً ضعيفاً بالإضافةِ إلى حقلِ الجاذبيّةِ. تعملُ قوّةُ الجاذبيّةِ على الحفاظِ على الغلافِ الجوّيِ حولَ الكوكبِ، في حين أنَّ القوةَ الكهربائيّةَ قد تساعدُ في دفعِ الطبقاتِ العلويّةِ للغلافِ الجوّيِ نحوَ الفضاءِ.
في حالةِ كوكبِ الزّهرةِ، عندما تصلُ جزيئاتُ الماءِ إلى الطّبقاتِ العليا من الغلافِ الجوّيِّ فإنَّ أشعّةَ الشّمسِ تُفكّكُها إلى أيونات هيدروجين وأوكسجين، ثمّ تطيرُ هذهِ الأيونات نحوَ الفضاءِ الخارجيِ. الهيدروجين خفيفٌ جداً ويمكنهُ أنْ يهربَ بسهولةٍ أصلاً، ولكن مكونَ الماءِ الأثقلَ (أيونات الأكسجين) لا يستطيعُ أنْ يهربَ من حقلِ الجاذبيةِ لولا الحقلُ الكهربائيُّ القويُّ الّذي يدفعهُ بسرعةٍ كافيّةٍ للهروبِ من الكوكبِ والتغلبِ على جاذبيتهِ.
يقولُ كولينسون: "إذا كانَ حظّكَ سيئاً بما يكفي لتكونَ ذرةَ أوكسجينٍ في الطّبقاتِ العليا من الغلافِ الجويِ في كوكبِ الزهرةِ فستكونُ كمن فازَ بيانصيبٍ مرعبٍ، نعم ستأتي يدٌ خفيةٌ لتجرّكَ أنتَ وأصدقاؤكَ الذرات وتطردكم خارجَ كوكبكم وأنتم تصرخونَ وتبكونَ ولا يستطيعُ أي شيءٍ إنقاذكم"
اكتشفَ الفريقُ حقلَ كوكبِ الزّهرةِ الكهربائيِ بواسطةِ "راسم طيف الإلكترونات"، وهو جزءٌ من الآلةِ ASPERA-4 الموجودةِ على متنِ المكوكِ الفضائيِ Venus Express التّابعِ لوكالةُ الفضاءِ الأوروبيّةِ، وذلكَ حينَ كانوا يراقبونَ تدفّقَ الإلكتروناتِ من الطّبقاتِ العليا للغلافِ الجوّيّ إلى خارجِ الكوكبِ، ولاحظوا أنَّها تهربُ من الكوكبِ بسرعاتٍ تقلّ عمّا هو متوقّع. أدركَ الفريقُ حينَها أنَّ الإلكترونات كانت مدفوعةً بواسطةِ قوّةِ حقلِ الكوكبِ الكهربائيِ. من خلالِ إعادةِ الحسابات ومقارنةِ السرعةِ المتوقعةِ مع السرعةِ الجديدةِ، تمكّنَ العلماءُ من حسابِ شدّةِ حقلِ الكوكبِ الكهربائيِ، ووجدوا أنَّها أقوى مما تصورهُ أيٌ منهم وأنّها تعادلُ خمسةَ أضعافِ شدّةِ حقلِ الأرضِ الكهربائيِ.
يقولُ كولينسون: لا نعرفُ بعد لما حقلُ الزهرةِ الكهربائي أقوى من حقلِ الأرضِ الكهربائي لهذهِ الدرجةِ، ولكننا نظنُّ أنَّ الأمرَ يتعلقُ بقربِ الزّهرةِ من الشّمسِ وبتعرّضِها للأشعّةِ فوقِ البنفسجيّةِ بضعفِ معدّلِ تعرّضِ الأرضِ لها. يعتبرُ قياسُ الحقلِ الكهربائي تحدّياً صعباً، حتى أنَّنا لم نستطعْ أن نقيسَ حقلَ الأرضِ الكهربائي بدقةٍ حتى الآن؛ وكل ما وصلنا إليهِ هو تقديراتٌ لأكبرِ قيمةٍ لهُ".
تساعدنا هذهِ الدراساتُ على فهمِ الكواكبِ الأخرى خارجَ مجموعتِنا الشمسيّةِ.
يقولُ العالمُ أندرو كوتس" Andrew Coates" رئيسُ الفريقِ المُشرِفِ على جهازِ راسم الطّيف الإلكتروني: "لقد قُمنا سابقاً بدراسةِ الإلكترونات المتدفقةِ خارجَ تايتان (أحدِ أقمارِ زُحل) و المرّيخِ، كما فعلنا في الزّهرةِ، وأظهرت النتائجُ الجديدةُ أنَّ قوّةَ الحقلِ الكهربائيّ الّذي يُغذّي عمليّةَ الهروبِ قويٌّ بشكلٍ مفاجئٍ في كوكبِ الزّهرةِ مقارنةً ببقيّةِ الكواكبِ. وهذا سيساعدُنا على فهمِ كيفيةِ حدوثِ هذه العمليّةِ بشكلٍ عامٍ".
هناكَ كوكبٌ آخر يُشتبهُ أنْ تكونَ الرّياحُ الكهربائيّةِ قد لعبتْ دوراً كبيراً فيهِ وهو المريخُ. حالياً، تحومُ المركبةُ MAVEN التّابعةُ لوكالةِ ناسا حول المرّيخِ لتحديدِ سببِ فقدانهِ الماءَ والغلافَ الجوّيَ. يقولُ كولينسون: "نحنُ نحاولُ أنْ نرصدَ الرّياحَ الكهربائيّةَ في المريخِ بواسطةِ MAVEN المدججةِ بعدّةٍ كاملةٍ من الأدواتِ العلميّةِ. هذهِ المركبةُ مخصصةٌ لحلِ لغزٍ عمرُهُ أربعةُ مليارات عامٍ، وهو اختفاءُ الغلافِ الجوّيِ والماءِ من المرّيخ"
بأخذِ الرّياحِ الكهربائيّةِ بالحسبانِ، سيتمكّنُ علماءُ الفلكِ من تحسينِ تقديراتهم لحجمِ المناطقِ "الصالحة للسكن" ومواقعها حولَ النجومِ. وهي المناطقُ المحيطةُ بالنجومِ والّتي تكونُ حرارتُها مناسبةً لوجودِ الماءِ السّائلِ على سطحِ الكواكبِ فيها، ما يزيدُ من احتمالاتِ وجودِ حياةٍ فيها. بعضُ النجومِ تُصدِرُ كميّاتٍ كبيرةً من الأشعةِ فوق البنفسجيّةِ مقارنةً بشمسِنا. وفي حالِ ثبتَ أنَّ هذهِ الأشعةَ هي المسببةُ للرياحِ الكهربائيّةِ، فهذا يعني أنَّ المنطقةَ "الصّالحة للسّكن" ستكونُ أبعدَ وأضيقَ حولَ تلكَ النجومِ مقارنةً بما كنّا نعتقدهُ سابقاً.