التعليم واللغات > اللغويات
اللغةُ عندَ الأطفال (3): التفاعلُ اللغويُّ معَ البالغين
هل سبقَ وسمعتَ أحدَهم يتحدثُ مع طفلٍ صغيرٍ بطريقةٍ طفوليةٍ مضحكةٍ مستخدماً كلماتٍ وأصواتاً معينةً أقربَ للشخصياتِ الكرتونية؟ لا أحدَ ينكرَ أنّ أغلبَنا يميلُ إلى تغييرِ نبرةِ صوتِه واستخدامِه عباراتٍ طفوليةٍ قريبةٍ من عالمِ الأطفالِ الجميلِ عند تحدثِنا معهم. ولكن لماذا نفعلُ ذلك؟ وهل لذلك تأثيرٌ على اكتسابِ الأطفالِ للّغةِ بالشكل الأمثل؟ يحاولُ مقالُنا التالي الإجابةَ عن تلك الأسئلة.
عندما يتحدثُ الأشخاصُ مع بعضِهم البعض فإنّ هدفَهم العامَّ هو أن يفهمَ السامعُ ما يقولُه المتحدث، وهذا لا ينطبقُ فقط على البالغين وحسب بل ينطبقُ أيضاً على الأطفالِ الصغارِ في السن. ولكن تكمنُ المشكلةُ الأساسيةُ في معرفةِ الأطفال للقليل جداً عن بنيةِ ووظيفةِ اللغة التي يستخدمُها البالغون في التواصلِ فيما بينهم، وكنتيجةٍ لذلك غالباً ما يتوجّبُ على البالغين أن يعدّلوا كلامَهم ليتأكدوا من فهم الأطفال لما يقولون.
إن ما يقولُه البالغون للأطفال ذو أهميةٍ كبيرة حيث يزودهم بمعلوماتٍ عن بنيةِ اللغة ووظيفتِها ممّا يساعدهم على اكتسابِها لاحقاً بالإضافةِ إلى تزويدنا بأداةٍ غير مباشرةٍ تساعدُنا في قياسِ مدى فهم الأطفال لما يقال لهم. وفقاً لهذا فإن أفضلَ طريقةٍ لدراسةِ تأثيرِ التفاعلِ اللغويِّ مع البالغين هو وصفُ ما يقولُه الأطفالُ ومقارنتُه بما يقولُه البالغون لهم وافتراضُ وجودِ ارتباطٍ ما بين الإثنين.
يتأثرُ كلامُ البالغين مع الأطفالِ بثلاثةِ عوامل.
أولاً: على البالغين أن يتأكدوا من أنّ الأطفالَ يدركون أنّ لفظاً ما موجّهاً لهم وليسَ لشخصٍ آخرَ، ولفعلِ هذا عادةً ما يستخدمُ البالغون اسماً، نبرةً أو صوتاً معيناً أو حتى الحصول على انتباهِهم عن طريق لمسِهم.
ثانياً: عند الحصول على انتباه الطفل، على البالغين انتقاءَ الكلماتِ والجملِ الصحيحة وذلك لزيادةِ إمكانيةِ فهمِ الطفلِ لما يُقال فمن غيرِ المعقول الحديثُ عن الفلسفة بينما من الممكن الحديث عمّا يفعله الطفل أو يلعب به.
ثالثاً: يمكن للبالغين قولَ ما يريدون قولَه بطرقٍ مختلفةٍ، فيمكن أن يتكلموا ببطءٍ أو بسرعةٍ أو أن يستخدموا جملاً قصيرة أو طويلة.
كيف يحصل البالغون على انتباه الأطفال؟
يعتمدُ المتحدثون لأيِّ لغةٍ على تعاونِ المستمعين معهم، ولكن عندما يكونُ المستمعون أطفالاً على البالغين بذلَ بعض الجهد الإضافي لتحقيقِ ذلك حيث يستخدمون ما يُدعى "أدواتُ الحصول على الانتباه" ليساعدوا الأطفال على التمييز بين ما يوجَّه لهم من ألفاظٍ بالإضافة إلى استخدام ما يسمّى "أدوات إبقاء الانتباه" عندما يكون لديهم أكثرُ من شيءٍ واحدٍ يريدون إخبارَه للأطفال، كإخبارِهم بقصة على سبيل المثال.
تقسم أدواتُ الحصولِ على الانتباه وأدواتُ إبقاء الانتباه إلى ثلاثة فئات:
1. إستخدامُ الأسماءِ والهتاف: غالباً ما يستخدم البالغون إسمَ الطفلِ المخاطب في بدايةِ جملِهم كقولِهم "سامي، أنظر إنها سيّارة"، أو يستخدمون بعضَ أنواعِ النداء كـ "انظر" أو "هيه".
2. إجراءُ بعض التعديلات، وتشمل هذه التعديلات:
- استخدامُ صوتٍ ذي نبرةٍ عالية: حيث يلجأ البالغون لاستخدامِ هذه التقنيةِ مع الأطفال الصغار.
- الهمسُ: غالباً ما يهمسُ البالغون في أذنِ الأطفالِ الجالسين في أحضانِهم أو الذين يقفون بجانبهم.
- المبالغةُ في رفعِ الصوت وخفضِه: من الملاحَظ رفعُ البالغين لنبرةِ صوتِهم في نهايةِ عباراتِهم المستخدمة مع الأطفال لا سيما عند إخبارهم قصصاً في محاولةٍ للحصول على تأكيدٍ من الأطفال بفهمهم لما يسمعون، ويعد استمرار الطفل بالنظر إلى المتحدث تأكيداً كافياً لذلك.
3. استخدامُ الإيماءات: من الممكن أن يربّت البالغون على رأسِ الأطفال أو أن يلمسوا أكتافَهم أو خدودَهم عند البدء في التحدث أو أن يشيروا إلى الأشياءِ التي يتحدثون عنها.
ماذا يقول البالغون للأطفال؟
1. الـ"هنا والآن":
يتحدثُ البالغون للأطفالِ بشكلٍ أساسيٍّ عن "هنا والآن" حيث يقومون بالتعليقِ المتواصلِ عمّا يقومُ به الطفلُ فمن الممكن أن يقول "ابن لي برجاً الآن" في نفس الوقت الذي يقوم فيه الطفلُ بإمساكِ صندوقِه من المكعبات، أو أن يصفَ ما فعله الطفل للتوّ كقوله "هذا صحيح، التقط المكعبات".
من الممكن أن يتحدث البالغون عن الأشياءِ التي تثير اهتمامَ الأطفالِ كقولِهم "هذه قطة"، أو أن يصفوا خصائصَها "إنها ناعمة جداً"، أو أن يتحدثوا عن العلاقاتِ بين الأشياء كقولهم "القطة في السلّة". يبدو أنّ البالغين يتبعونَ الافتراضات التالية:
- بعضُ الكلماتِ أسهلُ لفظاً للأطفال من غيرها.
- بعضُ الكلماتِ أكثرُ فائدة للأطفال من غيرها.
- بعضُ الكلمات صعبةُ الفهم لدى الأطفال ويجب تفاديها.
تحتوي معظم اللغات على "كلامٍ طفولي" (baby talk) والتي تضم كلماتٍ مناسبةٍ عند التحدثِ مع الأطفالِ، فمثلاً غالباً ما يستبدلُ متحدثو اللغة الإنكليزية أسماءَ الحيوانات بالأصوات الدالة عليهم كقولهم "مياو" للإشارة إلى القطة. يستخدم البالغون لمثل هذه الألفاظ كونها تبدو أسهل من ناحيةِ اللفظ بالنسبة للأطفال، خاصةً أن معظمَ هذه الألفاظِ تشبه لحدٍّ كبيرٍ تلك التراكيب والأصوات التي ينتجها الطفلُ في مرحلةِ إنتاجهم لكلماتِهم الأولى.
2. تبادلُ الأدوار:
عادةً ما يقوم البالغون بتشجيعِ الأطفالِ على أخذِ دورِهم في أي حوارٍ كمتحدثين ومستمعين حتى عند التحدث للأطفال حديثي الولادة حيث يستجيبُ البالغون للتجشّوء، التثاؤب ورمشاتِ الأعين ويعتبرونَها كأدوارٍ في الحوارِ على الرغم من استمرار البالغ في أخذ دوره في الحوار وحيداً.
يتطوّرُ تبادلُ الأدوارِ لاحقاً خاصةً عند دخولِ الأطفالِ في مرحلةِ الألفاظِ أحاديةِ وثنائيةِ الكلمة، من الممكن أن يقومَ البالغُ بطرحِ حوارٍ ما، يكونُ فيه الطارحُ للأسئلةِ والمجيبُ عليها أيضاً كقوله "أين الكرة؟" والتقاطِه للكرة وجوابه "هذه الكرة".
3. التصويب:
نادراً ما يقوم البالغون بتصويبِ وتصحيحِ ما يقوله الأطفال، ولكن عندما يقومون بهذا يعود ذلك إلى التأكدِ من صحةِ ما يسهم به الطفل. من الممكن أن يكون التصحيحُ ضمنياً أو صريحاً، كما تبين الأمثلة التالية:
- الطفل: كلب!
- البالغ: لا إنه حصان. (تصحيح صريح)
- الطفل (مشيراً إلى صورة عصفور في عش): عصفور بيت.
- البالغ: نعم إنه عصفور جالسٌ في عش. (تصحيح ضمني)
تبين كل من هذه الأمثلة حرصَ البالغين على صحّةِ مضمونِ ما يقوله الأطفالُ من حيث استخدامِهم لكلماتٍ صحيحة لمستمعيهم ليتكمنوا من فهم ما يقولون.
يقتصرُ تصحيحُ البالغين للّفظِ على بعضِ الكلمات التي قد تعيقُ فهمَهم لما يقولُه الأطفالُ، بينما يتجاهلون معظمَ أخطاءِ اللفظِ التي يقومُ بها الأطفالُ والتي لا علاقة لها بذلك، حيث اكتشفَ بعضُ الباحثون أن البالغين يتجاهلون الأخطاءَ القواعدية الصارخة طالما أنها لا تؤثر على صحة المعنى العام للجملة. هذا ما يثبت أنّ البالغين معنيّون بشكلٍ أساسيٍّ بمقدرةِ الأطفالِ على التواصل بشكلٍ واضحٍ مع مستمعيهم بغضِّ النظر عن الأخطاءِ التي لا تعيق هذه العملية.
كيف يتحدث البالغون مع الأطفال؟
يعدّل البالغون طريقة تحدثهم عندما يتحدثون مع الأطفال من خلال اتباعِهم لثلاثةِ أساليب:
1. الإبطاءُ في الكلام:
حيث يكون الكلامُ الموجّهُ لطفلٍ ذي عامين ونصفٍ بنصفِ سرعةِ ذاك الموجه للبالغين، وعند التحدث مع الأطفالِ ذوي الأربعِ إلى ستِّ أعوامٍ يصبحُ الكلامُ أسرع ولكنه يبقى أبطأ من ذاك المستخدم مع البالغين إذ يميلُ البالغون إلى التوقفِ المؤقتِ بين الكلماتِ للقيام بذلك. يمكّن هذا الأسلوبُ البالغينَ من فصل جملِهم عن بعضها وجعلِها أسهلَ فهماً بالنسبة للطفل.
2. استخدامُ عباراتٍ قصيرةٍ جداً:
وجد فيليبس (1973) أنّ ألفاظَ البالغين للأطفالِ ذوي العامين ونصف كانت بمعدلٍ أقلَّ من أربعِ كلماتٍ لكل عبارة، بينما كان معدّلُ عددِ كلماتِ الألفاظِ المُستخدمةِ مع البالغين الآخرين ثماني كلمات، ما يجعلُ العباراتِ الموجَّهةِ للأطفالِ بسيطة جداً.
3. استخدامُ التكرار:
يوجد كميةٌ وفيرةٌ من التكرارِ في كلامِ البالغين مع الأطفال، وقد يكونُ استخدامُ البالغين لـ"الجمل المؤطّرة مسبقاً" أو الجملِ الثابتةِ شكلاً والمتغيرةِ مضموناً كالقول "أين – ماما؟" أو "هيا بنا نلعب بـ – الكرة"، حيث يميل البالغون إلى تكرار هذه الجمل ذاتِ الشكلِ الثابت مع تغييرِ بعضِ الكلماتِ كأن تصبح "أين – العصفور؟" أو "هيا بنا نلعب – بالمكعبات". كما يقومُ البالغون بتكرارِ جملِهم خاصةً عند إعطائهم لبعضِ التعليماتِ للأطفال كالقول "التقط المكعبَ الأحمر. جِد المكعبَ الأحمر، ليس المكعب الأخضر بل الأحمر. أنا أريد المكعب الأحمر. هل تستطيع أن تجد المكعب الأحمر؟". يساعدُ التكرارُ الأطفالَ بمنحِهم وقتاً أكثرَ لتفسيرِ عباراتِ البالغين ولا يجبرُهم على تذكّر الجملة بأكملها.
ما أهميّةُ كلامُ البالغين بالنسبة للأطفال؟
يعدُّ التعرّضُ للغةِ شرطاً ضرورياً لاكتسابِ الأطفالِ للّغةِ لاحقاً، ولكن من الممكن أن يشملَ ذلك أيَّ نوعٍ من أنواعِ اللغةِ وليس بالضرورةِ تلك الموجهةِ للأطفال. لسوءِ الحظِّ هناكَ ندرةٌ حقيقيةٌ في عددِ البحوثِ المنجزةِ في هذا الخصوص، فمن الضروري معرفةُ ما إذا كان الأطفالُ يتعلمونَ اللغةَ عن طريقِ إصغائِهم للبالغين في محيطِهم أو ممّا يسمعون عن طريقِ التلفازِ أو المذياع.
إن إجراءَ تجاربَ علميةٍ لحسمِ هذه القضية يعدُّ أمراً صعباً، فمثلاً عادةً ما يلجأ الوالدان الأصمّان لتعريضِ أبنائِهم الذين لا يعانون من مشاكلَ سمعيةٍ إلى اللغةِ المستخدمَةِ على شاشةِ التلفاز قدرَ الإمكان، ولكن أثبتت بعضُ الدراساتِ عدمَ جدوى ذلك بشكلٍ كاملٍ حيث تبيّن أنّ هؤلاءِ الأطفالَ يملكون لغةً أكثرَ بدائيةٍ ذاتَ عددِ كلماتٍ محدودٍ مقارنةً بأولئك الذين لديهم والدين قادرين على الكلام، على الرغم من سماعِهم للكثيرِ من اللغةِ المتبادَلةِ بين البالغين على شاشةِ التلفاز، وبأن ذلك تغيرَ كلياً بمجردِ تفاعلِهم اللغوي مع بالغين قاموا بالتحدث إليهم مباشرةً وساهم في تطوير لغتِهم بسرعة كبيرة.
يعودُ عدمُ جدوى تعريضِ الأطفالِ للغةِ المستخدمَة على شاشةِ التلفاز إلى سببين رئيسيّين:
أولاً: يصعبُ ربطُ الحديثِ الدائر على الشاشةِ لحالاتٍ مرئيّة من قِبل الطفل مع محيطِه فنادراً ما يتحدثُ الأشخاصُ عن ما يمكن الوصولُ إليه من قبل الطفل.
ثانياً: من الصعب على الطفل أن يجزّئ تدفقَ الكلام السريع الذي يدور بين البالغين على شاشة التلفاز. لذا يبدو أن أسلوبَ الـ"هنا والآن" الذي يتبعُه البالغون خلال تفاعلِهم اللغوي مع الأطفال عاملاً أساسياً في اكتسابِ الأطفالِ للغة، ولكن لا يمكن الجزمُ بذلك حالياً وذلك بسبب الحاجةِ الملحّة لعددٍ أكبر من البحوث في هذا المجال.
إذاً على الرغمِ من قدرةِ الأطفالِ الفطريةِ على اكتسابِ اللغة، من الممكن أن يقدمَ التفاعلُ اللغوي بينهم وبين البالغين يدَ العون لهم في إنجازِ هذه المهمّةِ الاستثنائية، ولكن تبقى مثلُ هذه الفرضيات بحاجةٍ إلى التحققِ بشكلٍ أكبر عن طريق القيام ببحوثٍ قادرةٍ على اختبارِ مدى تأثيرِ التفاعلِ اللغوي القائم بين البالغين والصغار ودورِه في تيسيرِ عملية اكتساب اللغة.
المصدر:
Clark, E. & Clark, H. (1977). Psychology and Language. USA: Harcourt Brace Jovanovich, Inc.