كتاب > الكتب الأدبية والفكرية
مراجعة كتاب (اللاشعور.. بحثٌ في خفايا النفس الإنسانية)
إنّ أسرارَ الحياةِ كامنةٌ في النفسِ الإنسانيةِ، متجسّدةٌ بها. وإنْ أردْنا أن نعيَ العالمَ حولَنا وندركَه حقَّ الإدراك؛ فعلينا أن نبدأَ بِنَوَاتِه؛ الإنسان. من هذا المنطلق، كتب لنا (جان كلود فيلو)، عالِمُ علمِ النفسِ في فرنسا، وأستاذُ علمِ النفسِ في جامعةِ السورْبون الخامسةِ؛ هذا الكتاب.
في القسمِ الأولِ من هذا الكتاب، والذي عنونَه جان كلود فيلو بعُنوان (اللاشعورُ قبلَ فرويد)، يتناولُ فلسفةَ اللاشعور، بدايةً بـ(شوبنهور)، و(كارل غوستاف كاروس)، و(فون هارتمان). ومن ثم ينتقلُ بنا إلى النتائجِ التجريبيةِ الأولى، متناوِلًا التنويمَ المغناطيسيَّ والإيحاءات. ويُبحر بنا فيما بعد إلى (بيير جانيه) ومفهومِه عن اللاشعورِ والانحلال، والهيستيريا والأفكارِ التسلُّطيّةِ قبلَ اللاشعورية، ليصلَ بنا إلى (فرويد) في القسمِ الثاني من كتابِه.
وهنا يتعمّق بنا فيلو بالأعمالِ الأولى لفرويد ومسيرةِ تطوُّرِ هذا العلم، كما يتطرَّقُ إلى مفاهيمَ كان قد كشفها فرويد وسمّاها؛ كالكبتِ، والأعراضِ المرَضيّةِ، والصراعات؛ مثلَ الصراعاتِ العُصابيّةِ، والأحلامِ، ورسائلِ اللاشعور. ويقارنُ بين نظرياتِ الأحلامِ فيما قبلَ فرويد وبعدَه، وبين محتواها الظاهرِ والكامن، والتشابُكِ بين الحُلُمِ والرغبة. ويتطرَّقُ -فيما يتطرَّقُ إليه- إلى النسيانِ والإدراكاتِ الخاطئةِ والهفوات. ويشيرُ إلى موضوعٍ في غايةِ الأهمية؛ ألا وهو: اللاشعورُ والجنس، فيتطرَّقُ إلى نظريةِ الجنسِ ومراحلِها الأولى، والقفزِ من جنسيّةٍ غيريّةٍ إلى جنسيّةٍ ذاتيّةٍ عندَ الإنسان. ولعلّ أهمَّ ما يعترضُنا في جَنَباتِ هذا الكتابِ الغنيّ؛ هو عقدةُ أوديب، وما وصلَ إليه من استنتاجاتٍ ودلائلَ وبراهينَ للنفسِ البشرية، وما يعتريها من تعلُّقٍ شديدٍ بالأبوين، وخصوصًا الأمّ، وأنانيةِ الوليدِ تجاهَها، وتمسُّكِه بثدييها على سبيل المثال، ورحلةِ انفكاكِه من هذه الحلْقةِ ليتوسّع مع مرورِ الزمن. فيُورِدُ لنا فرويد عن العقدةِ الأوديبية، والتي تشيرُ إلى صراعاتٍ وردودِ أفعالٍ وأحاسيسَ قد تصلُ إلى درجةِ الإحساسِ بالذنبِ وتأنيبِ الضمير. ويتحدّثُ عن الترابُطِ المتلازمِ بين الحُلُمِ والجنس.
نصلُ الآن إلى الحياةِ العقليةِ واللاشعور، فيُمايِزُ بين اللاشعورِ وما قبلَ الشعور، ويطرحُ موضوعًا حسّاسًا بين الـ(هو)، والـ(أنا)، والـ(أنا) الأعلى، وترابطَه مع التوازنِ النفسيِّ لدى الإنسان، والعملياتِ الشعوريةِ واللاشعورية.
أمّا في القسمِ الثالث، والذي يحكي لنا فيه عن اللاشعورِ بعدَ فرويد، وإضافاتِه ونظريّاتِه، وما آلَ إليه العلمُ في هذا الصدد؛ فيتطرَّقُ إلى نظرياتِ اللاشعورِ ما بعدَ الفرويدية، إذْ يذكرُ لنا (أدلر) وما طَرحه من أحاسيسِ الضَّعفِ وإرادةِ القوّة، والعُصابيِّين، وأيضًا ما تميّز به؛ وهو اللاشعورُ الأدلريّ، الذي خالفَ به فرويد إلى حدٍّ ما. من ثمَّ يذكرُ (ليونغ) ومفهومَه عن اللاشعورِ الجمعيِّ وما يعنيه، والأمثلةَ النفسيةَ من الانبساطِ والانطواء. ويصلُ بنا إلى ما قد جاء به (ميلاني كلاين) وبحثُه عن البُعدِ الخياليِّ ومرحلةِ ما قبلَ الأوديبية، مارًّا بوضعيةِ الاكتئابِ والتناقضِ الوِجدانيّ، لينتقلَ إلى المرحلةِ الأساسِ من عقدةِ أوديب. ولا ينسى فيلو أن يذكرَ (لاكان)، وما جاء به عن بنْيةِ اللاشعورِ وبنْيةِ اللغة، والدَّالِّ والمدلول، واللاشعورِ وخطابِ الآخر.
يَختِمُ لنا كتابَه بالربطِ بين اللاشعورِ والوظيفةِ الأدبيّة، فيتعرَّضُ إلى التحليلِ النفسيِّ للأدب، ويُزاوِجُ بين الفنِّ والحُلُم، وبين الأساطيرِ والأدب، وهذا ما قد طرحه فرويد. ويتطرَّقُ إلى تحليلِ (شارل بودوان) فيما يخصُّ ذلك، فضلًا عن إيرادِه نقدَ التحليلِ النفسيِّ لـ(كاستون باشلار) والخيال، إذْ يؤكدُ باشلار أهميةَ المصادرِ اللاشعوريةِ للإبداعِ الخياليِّ والأدبيّ، ومِن ثَمَّ فإنّ الصورَ الأدبيةَ الطافحةَ بالغنى والثراءِ هي بالضرورةِ صورٌ لاشعورية.
هذا الكتابُ يتفرّدُ في المكتبةِ العربيةِ بتناوُلِ موضوعِ علمِ نفسِ الأعماق، ويتفرّدُ بكونِه مخصَّصًا لمعالجةِ اللاشعورِ بوصفِه موضوعًا مستقلًّا. كما يقدِّمُ لنا صورةً جَلِيَّةً عن مسيرةِ التطوُّرِ الحاصلةِ في مجالِ علمِ نفسِ اللاشعور، وذلك منذ نصفِ القرنِ التاسعَ عشرَ حتى الآن؛ فيُعطينا فكرةً عن العمقِ اللاشعوريّ، ويُشِيدُ بعبقريةِ فرويد في هذا المجال، وباكتشافاتِه العظيمةِ فيما يخصُّ الكَبْتَ والتمييزَ بين اللاشعورِ وما قبلَ الشعور، واكتشافاتِه الرائعةِ عن الحياةِ الداخليةِ للّاشعور، المحدِّدةِ لعلاقاتِ التبادُلِ بين الشعوب، والتي تجعلُ فرويد بحقٍّ: المفكرَ الأفضلَ في بحثِ اللاشعور، وصاحبَ ابتكارٍ خلّاقٍ لعلمِ نفسِ الأعماقِ في الإنسان.
• معلومات الكتاب:
(اللاشعور.. بحثٌ في خفايا النفس الإنسانية)، جان كلود فيلو، ترجمة علي وطفة، دمشق: دار معد للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1996.
ورقي، قِطْع متوسط، ويقع في 204 صفحات.