كتاب > الكتب الأدبية والفكرية
مراجعةُ كتاب (الاستشراق): استعادةُ هويّة المشرق.
يعدّ (الاستشراق) كما يصفه أحد النقاد إنجيلًا للباحثين في مجال النقد ما بعدَ الاستعماريّ.
دوّن (سعيدٌ) في كتابه دراسةً للخطاب الغربيِّ وطريقةِ تمثيله للمشرق، والذي لاحظه في مختلِف مجالات الفكر الغربية السياسية والثقافية والأدبية، دون أن يدخل في كون هذا الخطابِ مقصودًا أم لا.
إنّ الاستشراق ليس مفهومًا ابتكره (ادوارد سعيد)، بل هو توصيفٌ دقيق لما وجده من ميلٍ أو نزعةٍ فكريةٍ في الخطاب الغربيّ إلى تنميط الشرق أو قولبته بقالِب محدّد بالمكان والزمان في الكتابات الغربية التي تتناول الشرق، فلا تجد الشرقَ في هذه الكتابات قابلًا للتبدُّل أو التطوُّر، بل هو أقربُ إلى الصورة الثابتة التي تُستخدَمُ مِرارًا وتَكرارًا، في محاولة لفرض صورة مغايرة للواقع، محدِّدةٍ له بنطاق لا يَرقى إلى أن يكون ذا مصداقية أو إنسانية.
أما المستشرق فهو مَن يكتب عن المشرق، ولا يكونُ هذا المستشرق عالمًا بالمشرق جرّاءَ تجرِبة مباشِرة بالضرورة، بل بالنصوص التي تحدثت عن المشرق فقط.
يقول (سعيدٌ) إن النصَّ المكتوبَ عن المشرق امتلك مع الوقت مرجعيةً ومصداقية لدى الباحثين الغربيّين في أبحاثهم عن المشرق، فاقت التجرِبةَ المباشِرةَ والاحتكاكَ المباشِر مع الشرقيّين، واستند (سعيد) هنا إلى أفكار (ميشيل فوكو) حول استطراد الخطاب.
يعرِّف (سعيد) الاستشراقَ والمفاهيمَ المرتبطة به وبتاريخِه في الفصل الأول من الكتاب؛ (مجالُ الاستشراق). فيرى أن الغرب منح نفسه مكانة المسيطِر على المشرق، المراقِبِ له من بعيد، إذ أعطى هذا التميُّزُ للغرب مزيدًا من القوة، ضمن ثنائيات يتمتع فيها دائمًا باليد العليا. فيظهر الغربُ بمظهر القوي، المتحضر، الذكيِّ العقلانيّ، العمليِّ المنفتح، بينما يقابله المشرق بانفعاله ورجعيّته وانغلاقه. منح هذا التضادُّ مع الشرق مزيدًا من القوة والنفوذ للغرب؛ ما مَهّد للحركات الاستعمارية فيما بعدُ وسَهّل لها.
يفصِّل (سعيد) أيضًا بدايةَ الاستشراق في دراسةٍ أشبهَ ما تكون بالتاريخية، يتطرّق فيها إلى الرحلات الاستكشافية للشرق والكتابات التي جاءت على إثرها، في الفصل الثاني؛ (البنى الاستشراقية وإعادةُ خلق البنى). فيخصِّص هذا الفصلَ للمستشرقين من علماء الإنسان وعلماء اللغة؛ مثل (سيلفستر دو ساسي)، و(إرنست رينان).
يتحدث أيضًا عن حركات استعمارية في التاريخ (فرنسيةٍ وبريطانية)، نتجت بطريقة أو بأخرى عن التصوير المحدود للشرق، الذي جعله يبدو مغريًا وسهل المنال على الرغم من الأخطار التي تملؤه.
ومِن أبرز المؤلفين الذين شملتهم دراسة (سعيد): (غوستاف فلوبير) الروائيُّ الفرنسيّ، و(جيرارد دو نيرفال) الكاتبُ الفرنسيُّ أيضًا، و(روديارد كيبلينغ) الكاتبُ الإنجليزيّ، و(هومر) الشاعرُ الإغريقيّ.
حَدّد (سعيد) القرنَ الثامنَ عشرَ نقطةَ انطلاقِ الاستشراق بشكل واضح، تزامنًا مع تزايُد الأطماع البريطانية في الهندِ ومصر؛ ولذلك نجده يركّز على بريطانيا وفرنسا بصفتها دولًا استعماريةً، وعلى شمال أفريقيا والهند بصفتِها مستعمَراتٍ لها. إلا أنّ الاستشراقَ -كما يوضِّحُ- يتّسع ليشمل دول الشرق الأدنى كالصين، وبحلول القرنِ العشرينَ يمتدّ إلى الولايات المتحدة بصفتها دولةً إمبرياليّةً، بعد بريطانيا وفرنسا.
وبالفعل، يخصِّص (سعيد) الفصلَ الثالث من الكتاب؛ (الاستشراقُ الآن) للخطاب الأمريكيِّ الذي ينمّط العربَ في قالِب الإرهاب في الأفلام والمنابر الإعلامية. ويوضِّح فيه استمراريةَ الثنائيات المرتبطة بالشرق والغرب في خطاب يعتمد على عقلية (نحن) و(هم).
تكمن أهمية (الاستشراق) في توضيحه للخطاب الغربي المحدود حول الشرق، إلا أن قيمتَه تتعدّى ذلك؛ إذ أَسَّس للفكرة الأعمِّ التي تفضح العيب في خطابات الدول الاستعمارية بشكل عام، حول الدول التي تَدخل ضمن أطماعها.
لقراءة المزيد عن الاستشراق، بإمكانكم الاطّلاعُ على مقالنا السابق:
• معلومات الكتاب:
دار النشر: مؤسسة الأبحاث العربية.
ترجمة: كمال أبو ديب.
عدد الصفحات: 325 صفحة.