منوعات علمية > العلم الزائف
نوستراداموس.. الرجل، الأسطورة، الزيف والخداع
طائران من حديدٍ يسقطان من السماءِ على متروبوليس
سوفَ تحترقُ السماء عند درجةِ العرضِ الخامسةِ والأربعين
تقتربُ النار في المدينةِ العظيمةِ الجديدة
ستكونُ هائلةً، واللهبُ المنبعثُ سيَتصاعد
في غضونِ أشهرٍ، ستتلوّن الأنهارُ بالدّم
وستجوبُ الأشباحُ الأرضَ لبعضِ الوقت
فلْنَتَعرّف بدايةً على نوستراداموس كاتبِ هذه النبوءات..
مايكل دي نوستريدام، المعروف بـ "نوستراداموس"، فيزيائيٌ فرنسيّ، وعالمُ فلكٍ ورسول (كما يدّعي مناصروه). وعلى الرّغمِ من كثرةِ أعدادِ الفيزيائيين والمنجمين الذين مرّوا على العالمِ خلالَ قرونٍ طوال، إلا أنّ شهرةَ نوستراداموس استمرّت لمدّة تزيدُ عن 400 سنةٍ بعد موتهِ، وخاصةً بسببه كتابه "نبوءات" الذي ألّفه عامَ 1555، والذي نُشِرَ فيما بَعد باسم "قرون".
تمّ تأليفُ هذا الكتابِ بنظام الرباعيّات، أي أنّ كلّ نبوءةٍ قد كُتبت في أربعةِ أشطر، ويضمّ الكتابُ 9 مجموعاتٍ مؤلفةً من 100 رباعية، ومجموعةً واحدةً مؤلفةً من 42 رباعية، علماً أن الكثيرَ منها يتحدّث عن مكنوناتٍ تتوضّح في المستقبل.
الغريبُ في الأمر، أنّ الكثيرين حولَ العالم قد أسقطوا تلكَ النّبوءاتِ على أحداثٍ وقعتْ في أيامنا هذه، مثل قنبلةِ هيروشيما اليابانية في العام 1945، وحادثةِ مكّوكِ تشالنجر في العام 1986، والثورةِ الفرنسيةِ في العام 1789، إضافةً إلى هبوطِ مركبةِ أبّولو، وموتِ الأميرة ديانا، والحرب العالمية الأولى والثانية، وما بينهما من تواريخَ مهمة.
أدّى انتشارُ اسمِ نوستراداموس ونبوءاتِه إلى اندفاعِ العديدِ من الباحثين لدراسةِ أعمالِه وأشعارِه، ليجدوا في النهايةِ أنّ النبوءاتِ المنسوبةَ إليه كانت نتيجةُ ضعفٍ لغويٍ وتاريخيٍ سبَبُهُ الفَهم الخاطئُ لمعاني تلكَ التنبواءت. ويعتبرُ بيتر ليميسورييه، عالمُ اللّغوياتٍ السابق في جامعةِ كامبريدج، من أبرزِ دارِسي نوستراداموس، حيث ألّف عشراتِ الكتبَ عن الرّائي الفرنسيّ أهمها كتاب "نوستراداموس.. العرّاف: الرجلُ، والأسطورةُ، والحقيقة". وفيه يقول ليميسورييه أنّ نوستراداموس ليس طبيبًا ولا عالمَ فلَكٍ ولا حتى نبيًا، بل هو مجرّد رجلٍ أيقنَ أنّ التاريخَ يعيدُ نفسه، وبذلك تَوقّعَ أنّ بعضَ الأحداثِ التي انقضت ستُعيدُ نفسها في المستقبل.
كما كشفَ ليميسورييه زيْفَ الكثيرِ من الأساطيرِ حول نوستراداموس، ومن بينها ما تمّ تداوُله حول تنبُّئِه بتفجيراتِ برجيّ التجارة في الحادي عشر من سبتمبر.
كيفَ تبيّن ليميسورييه زيفَ تلكَ الحادثة؟
انتشرتْ قصةُ النبوءةِ في أواخر العام 2001، وما زالت حتى اليومِ تمتلكُ مصداقيةً كبيرةً لدى الكثيرين، فهم يصدقون بأن رباعيةَ نوستراداموس الشهيرة والتي تمّ ذكرُها في بداية المقال تَصِفُ حادثةَ الحادي عشر من سبتمبر وصفاً دقيقاً، وكأنه أحدُ معاصِري هذا الزمن. ويؤكّد المدافعون عن هذه النبوءةِ أن عبارةَ "الطيور الحديدية" تشيرُ إلى الطائرات، و"متروبوليس" هي مدينة نيويورك التي تقع على درجة العرض 40 شمال خطّ الاستواء.
ولكنّ الحقيقةَ تُشيرُ إلى أن هذه القصّةَ هي مزيجٌ من أشعارِ نوستراداموس الحقيقيةِ مع قليلٍ من الخيال الجامح. فعبارةُ "الطائرات الحديدية" لا يمكن أن تشير إلى الطائرات في الزمنِ الذي كان يعيشُ فيهِ نوستراداموس، فالطائرات الحديدية لم تصنع إلا في العام 1854، أي بعد أن مضت 200 سنةٍ على وفاتِه.
رباعيةٌ سبتمبريةٌ أخرى!
يشيُر البعضُ إلى رباعيةٍ أخرى مرتبطةٍ بأحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهي الرباعيةُ رقم I.87 (أي أنّها الرباعيةُ الـ 87 في القسمِ التاسع I) والّتي يمكنُ أن تُترجمَ إلى النصِ التالي:
(من مركزِ العالم تنبعثُ نيرانٌ تهزّ الأرضَ
وتجعلُها ترتعشُ حولَ المدينة الجديدة)
بقليلٍ من الخيال، يقوم أحدنا بربطِ النّقاط ببعضها البعض، ونتساءل، هل الأرضُ المهتزّةُ بالنيران هي الانفجاراتُ الناجمةُ عن البرجين؟ وهل المدينةُ الجديدة هي نيويورك كما يزعم نوستراداموس؟
نعودُ هنا إلى ليميسورييه، الذي يُرجّحُ أنّ استخدامَ نوستراداموس لعبارةِ "المدينةِ الجديدةِ" في كتاباته الأصليّة يمكنُ أن تفيدَ معنىً آخرَ كلياً في اليونانية أو اللاتينية، وهو بعيدٌ عمّا تعودنا عليه في تسمياتِ المدنِ الحديثة نيويورك ونيو أورليانز.
علاوةً على ذلك، فإنّ الأبياتَ تُشير بوضوحٍ إلى أنّ النيران لن تكونَ من السماء، وإنما من مركزِ العالم (كالحِممِ البركانيّة مثلاً). وبمعنى آخر، لم يقلْ نوستراداموس أي شيءٍ عن نيويورك، ولا عن حادثةِ الحادي عشر من سبتمبر.
ولعلّ كتاباتِ نوستراداموس باللغةِ الفرنسيةِ التي كانت سائدةً بين القرنين الرابعِ عشر والسادسِ عشر قد جعلتْ من كلماته تتّسم بالغموض، وكثرت فيها العبارات المستعارة، الأمرُ الذي خلّف الكثيرَ من التناقُضاتِ والارتباكات حول معاني هذه الرباعيات، كما أدّى ذلك إلى انتشار عشراتِ التراجُمِ المختلفةِ لكتابِه، وتعدُّد صورِها وتفاسيرِها.
ومن المؤكّد أن هذه الاختلافاتِ الواسعةَ في المعاني قد ساعدَت على إحياءِ هذه "النبوءات" وبثّ الحياةِ فيها، فلا بدّ لإحدى النسخِ المترجمةِ أن تتطابقَ مع أهدافِ وقناعاتِ كلّ من يصدّق حقيقةَ تلكَ النبوءات.
وقد تكونُ العبارةُ التي يُعتقد أنها تنبّأت بقدوم هتلر هي المثالً الأنسبً على هذا اللّغطِ الشائعِ في التفسير، حيث تقولُ الأبيات الشعرية ما يُترجم إلى:
(معركةٌ كبرى سوف تقع بالقرب من هستر، وسوف تدعو إلى الانجرار في قفصٍ حديدي، وحينها سينظر الألمانُ إلى نهر الراين الصغير).
كلّ من يُصدقُ نبوءات نوستراداموس سيقتنعُ بأنها تشيرُ إلى ألمانيا، والحرب، و"هستر" التي قد تبدو للوهلةِ الأولى مشابهةً لاسم هتلر. وسينادي المصدّقون قائلين: ياللهول، نبوءاتٌ مذهلة!
الواقعُ أنّ كلمةَ "هستر"، والتي يمكنُ أن تترجمَ إلى "استر" أو "إيتر" ليست اسمَ أودلف هتلر أو أيّ شخصٍ آخر، وإنما هي اسمٌ آخرُ لنهرِ الدانوب الأدنى، واللفظُ ذاتُه الذي استخدمَهُ نوستراداموس في كتابِ "التقويم" الذي ألّفّهُ عامَ 1554.
تسويق لفظي وليس نبوءات!
يبدو مما سبق أنّ نوستراداموس كانَ ذكياً بما فيه الكفاية ليُضَمّن رباعياتِه بعباراتٍ غامضة، تجعلُ النّاسَ في شَتاتٍ حول معانيها، مما يتيحُ لهم قراءةَ ما يريدون من خلالها. وعلى الرّغمِ من جحافلِ أتباعِه، إلّا أنّ التحليلات العميقة لكتاب "قرون" تؤكّد أن نوستراداموس لم يكن يكتبُ نبوءاتٍ عن أحداثٍ لم تحدُث بعدْ، بل كان يكتُبُ جملاً تبدو وكأنها حقيقةٌ بعد حدثٍ ما، وهذا بالطبع ليس تنبؤاً على الإطلاق.
ويتأكّد لنا ذلك عندما نُلاحظُ بأن أحداً لم يعلم مسبقاً بأحداث الحادي عشر من سبتمبر قبل وقوعها، حتّى ممّن يقرؤون لنوستراداموس ويصدّقون نبوءاتِه السابقة. وإن دلّ ذلكَ على شيءٍ، فهو دليلٌ على مدى الغموضِ الذي تحملُه هذه الأشعار والذي لا يُمكنُ أن يُفسّرَ وتُفكّ طلاسِمُه إلا بعدَ وقوعِ الحدث.
ويقولُ الباحث جميس راندي، مؤلفُ كتاب "قناع نوستراداموس"، أنّ هذا المُتكهّن قد وضعَ كتاباتٍ تتجاوز ما أنجزه أيُّ شخصٍ آخرَ في عصره، لكنّه وبذكائِه المتّقد، هذّبَ كُتبهُ لتَحمل معاني غامضةً جعلت منه كاتباً مشهورًا حتى يومنا هذا.
الجديرُ بالذكرِ أنّ نوستراداموس – وبحسب بعضِ التراجم – قد تنبّأ بنهاية العالمِ في كانونَ الأول من العام 2012، وها نحنُ اليومَ في العامِ 2016. لعلّ ذلكَ يكونُ دليلاً واضحاً أنّ هذا الرجلَ ليس متكهّناً، بل شخصاً أحسنَ صياغةَ كتُبِه ليسوّقها إلى الأبد.
المراجع:
1-Tom Harris. How Nostradamus Works HowStuffWork.science {accessed 18 June 2016} available form: هنا
2-Benjamin Radford.2012. Nostradamus: Predictions of Things Past.23 October. Live science {accessed 18 June 2016} available form:
3-هنا