التاريخ وعلم الآثار > الحضارة السورية
مدينةُ الياسمين في مواجهةِ أصعب أزمةٍ عبرَ تاريخها
دمشق، مدينةُ الياسمين، مدينةُ التَاريخ الأكثرِ عراقة، يا مَن تغزَّل بِكِ فَنَّاً كُلُّ مَن مرَّ على أعتابك، واستقى منكِ إبداعاً يُختزلُ بروحِكِ الشّرقيّةِ المُرهفة. ارتسمت على وجنتيكِ أرواحٌ لحضاراتٍ عظيمة، فها هو الأمويُّ الكبيرُ يبوحُ قائلاً: مِن هنا مرَّت حروفُ المعمدان. وها نحنُ نكتبُ اليوم لنخلِّدَ أطلالكِ الشّامخةِ إلى اللحظة، ونمُرَّ على محطاتٍ مختلفةٍ من صفحاتِ تاريخكِ العظيم لنقرأها معًا...
سُكنت المنطقة التي تقع فيها مدينة دمشق الحالية منذ الألفية السابعة قبل الميلاد، ويعود تأسيس المدينة إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد لتكون واحدة من أقدم المدن المأهولة في العالم. تقع في الجزء الجنوبي الغربي من سوريا، على السفح الشرقي لسلسلة جبال لبنان، حيث يفصلها عن البحر مسافة ثمانين كيلو مترًا غربًا.
تضمنت ألواح إيبلا أحد أقدم النصوص التي ذكرت اسم مدينة دمشق، كما ورد ذكرها في أرشيف ماري باسم ديماشكي. وجاء ذكرها أكثرَ من مرَّة في النصوص المصريَّة القديمة، ومن أبرزها ألواح تحتمس الثالث ورسائل تل العمارنة باسم تمشق وتاماشقو ودمشق. أسماها الحثيون آبوم والآراميون أوبي ثم آرام ودمشقا وأطلقوا عليها اسم دارميسق أي الأرض المسقية. وقد أخذت مدينة دمشق اسمها الحالي باللغة الانكليزية داماسكس Damascus من أصولٍ إغريقيةٍ في الغالب.
الشكل (1): لوح من إيبلا
الشكل (2): من رسائل تل العمارنة
خضعت دمشق على مر السنين لحروبٍ تكاد لا تُعَدّ ولا تُحصَ وعاصرت العديد من الشعوب وتعرضت للاحتلال من حضاراتٍ مختلفةٍ تركت آثارًا في المدينة لا يزال بعضها واضحًا حتى يومنا هذا.
غزاها العموريون حوالي 1500 ق.م، وفي عهد الآراميين حوالي 940 ق.م صارت عاصمة لدولةٍ واسعة. شُقت فيها الشوراع وأقيمت قنوات المياه، وإن آثار العهد الآرامي ترقد في أعماق تل السماكة الموجود بين شارع الخراب وزقاق المليحي. ثم احتلها الآشوريون في عام 732 ق.م وهدموا معالمها الرئيسية.
خضعت في القرن السابع قبل الميلاد للكلدانين، ثم للفرس عام 538 ق.م وصارت عاصمة الولاية السورية ومقر القيادة العسكرية الفارسية. وفي عام 333 ق.م احتلها الإسكندر المقدوني بعد انتصاره على الفرس في معركة إيسوس. وبعد وفاته تقاسم قوداه البلاد وأصبحت دمشق تارةً للسلوقيين وتارةً أخرى للبطالمة. وقد ظهر التأثير الهلنستي في ثقافتها وهندستها، حيث ازدهرت المدينة عمرانياً وشيد فيها حيان جديدان عن الأحياء الآرامية السابقة.
الشكل (3): الإسكندر الكبير في معركة إيسوس
أصبحت في عام 85 ق.م تحت حكم الأنباط العرب، ثم غزاها الرومان عام 64 ق.م بقيادة بومبي. وصارت مدينةً رئيسيةً في عهد الإمبراطور هادريانوس ومُنحت اسم مقاطعة رومانية ثم لقب مستعمرة رومانية في عهد الإمبراطور الفينيقي الأصل سبتيموس سفيروس.
أحيطت المدينة بسورٍ دفاعيٍّ ذي أبواب، لازالت الأبواب قائمة حتى اليوم مع قسمٍ من السور. واعتمد المخطط الشطرنجي في عمرانها والذي لا يزال واضحًا في الشارع المستقيم الذي يخترق المدينة من باب الجابية في الغرب إلى الباب الشرقي في الشرق.
الشكل (4): مخطط لمدينة دمشق في العصر الروماني
دخل العرب المسلمون دمشق عام 635 م تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح، ولكن دمشق لم تتبوأ مكانتها في العهد الإسلامي حتى عهد الخليفة معاوية، الذي اختار دمشق عاصمةً له عام 656 م. وقد عادت دمشق في العهد الأموي مركزاً سياسياً واقتصادياً مرموقاً، وأدى ذلك إلى نمو المدينة واتساعها، فبدأت تنشأ أحياء جديدة في أطراف المدينة، كما كثرت قصور الأمراء والوجهاء.
وحينما دخلها العباسيون عام 746 م دمروا كل المباني الأموية ونقلوا عاصمتهم إلى بغداد وحكموا دمشق منها. ثم حكمها الطولونيون من تونس والإخشيديون من مصر والفاطميون من المغرب ثم من القاهرة، واحتلها القرامطة مرات وثارت الفتن والثورات فيها وعم الخراب وانتشر الطاعون الذي قضى على عدد كبير من السكان.
بدأت تغييرات جديدة تطرأ على المدينة بدءاً من القرن العاشر الميلادي، إذ تخلت عن الطرقات المستقيمة والمتقاطعة عمودياً، وحل محلها أحياء سكنية تصل بينها الممرات والأزقة الضيقة وتغلق ببوابات بين الشوارع الرئيسية، وبذلك بدأت المدينة تتخذ طابع المدينة الإسلامية، وطبعت هذه البنية ملامح الأحياء الجديدة التي نشأت خارج أسوار المدينة القديمة.
في عام 1076م، انتزع القائد التركي أتسز المدينة من يد الفاطميين ووطد فيها حكم السلاجقة مع الاعتراف اسمياً بالخليفة العباسي. وكان أشهر حكامهم محمود بن زنكي الشهير بنور الدين الشهيد الذي استولى على المدينة عام 1154م وأسس الدولة الزنكية.
جاء بعده صلاح الدين الأيوبي من مصر فأسس الدولة الأيوبية التي دامت حتى الغزو المغولي بقيادة هولاكو عام 1260م، الذي قام بنهبها وإحراقها وقتل الكثير من سكانها، إلى أن قام السلطان المملوكي المظفر قطز بالانتصار عليهم في معركة عين جالوت 1260م. وأصبحت دمشق عاصمة ثانية بعد القاهرة وتقدمت في عهدهم العلوم والفنون وازدهر العمران ونشطت التجارة. قام بعدها تيمورلنك بمهاجمة دمشق عام 1400م، حيث أباح المدينة لجنده الذين عاثوا فيها خراباً وفساداً، واستمرت هذه الأوضاع إلى مجيء العثمانيين.
دخل العثمانيون دمشق بعد بضعة أسابيع من هزيمة المماليك في معركة مرج دابق قرب حلب عام 1516م. قويت الإمبراطورية العثمانية وتوسعت وحكمت بلاد الشام لمدة أربعة قرون، وكان حكمهم ظالمًا مليئًا بالنهب وسلب الخيرات، فصارت البلاد فقيرة وانعدمت العلوم والفنون. إلا أنها كسابقاتها تركت أثرًا مازال صامدًا حتى اليوم ألا وهو التكية السليمانية، التي أمر ببنائها السلطان سليمان القانوني عام 1554 م، والتي تعد أحد أهم الآثار العثمانية في مدينة دمشق.
الشكل (5): التكية السليمانية
أُعلنت الثورة العربية الكبرى ضد العثمانين عام 1916م، وكان قائدها الشريف حسين، ساعده الحلفاء في البداية ولكنهم خانوه فيما بعد وتقاسموا بلاد الشام. وأصبحت فلسطين والأردن من نصيب الإنكليز، ولبنان وسوريا من نصيب الفرنسيين.
دخلت طلائع الحلفاء دمشق بقيادة فيصل بن الحسين في 1 تشرين الأول عام 1918 م وأقام حكومةً عربيةً فيها، ولكن معاهدة فرساي جعلتها تحت الانتداب الفرنسي. دخلت القوات الفرنسية دمشق في 24 تموز عام 1920م بعد انتصارهم في معركة ميسلون بقيادة الجنرال غورو. استمر الوضع على ما هو عليه حتى نالت سوريا استقلالها مقيدًا بمعاهدة في عام 1943م ودخلت في عصبة الأمم المتحدة. وفي أواخر عام 1946م انسحبت الجيوش الفرنسية من سوريا وحصلت على استقلالها التام.
يمكننا قراءة تاريخ المدينة من خلال مبنى الجامع الأموي الموغل في القدم، والذي يعد المعلم الحضاري الأبرز والأشهر الذي تمحورت حوله تاريخياً النشاطات الدينية والثقافية والاقتصادية والسياسية لسكان المدينة. فهو يعتبر واحدًا من أهم ما تركته الدولة الأموية خلفها، والذي يعد أحد أكبر وأقدم المساجد في العالم التي لا تزال تقام بها الشعائر الدينية الإسلامية. يحوي الجامع بين جدرانه آثاراً تعود لكاتدرائية بيزنطية كُرس بناؤها للقديس يوحنا المعمدان، والذي بقي ضريحه موجودًا خلال العهد الأموي كرمزٍ للإخاء والتسامح الديني. ولو عدنا في التاريخ لفترةٍ زمنيةٍ أقدم، لوجدنا أن هذا المكان كان معبدًا رومانيًا لعبادة الإله جوبيتر، وذلك في عهد الإمبراطور الروماني ثيودوسيوس الأول Theodosius I، والذي أُقيم على أنقاض معبد آرامي سابق كان مكرسًا للإله حدد.
الشكل (6): الجامع الأموي رمز المدينة على مر العصور
وكما ذكرنا سابقًا، مرت على المدينة العديد من الأحداث المؤلمة أو المراحل الصعبة، إلا أنها في وقتنا الحالي قد تكون في مواجهة أزمةٍ توصف بأنها الأخطر عبر تاريخها، فللحرب الأهلية السورية المشتعلة تأثير جمٌّ لا يقتصر على شعبها فحسب، بل يهدد آثارها أيضًا. ومن المؤسف أنها وضعت في قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر عام 2013م. ومع ذلك نأمل أملًا شديدًا أن تسلم الآثار القديمة في دمشق خلال هذه الأزمة لتبقى وتثبُت شاهدًا على تاريخها العريق .. مدينة الياسمين
المصادر:
1- هنا
2- الطنطاوي. علي، دمشق صور من جمالها وعبر من نضالها، الطبعة الثانية، دمشق، دار الفكر، 1997.
3- جود الله. فاطمة، سوريا نبع الحضارات، الطبعة الأولى، دمشق، دار الحصاد للنشر والتوزيع، 1999.