المعلوماتية > عام
نظرة نحو المستقبل: الحواسيب القابلة للرش
مع تطور تكنولوجيا صناعة الرقاقات الحاسوبية وبالأخص تكنولوجيا الأنظمة الدقيقة (MEMS)، التي تَعِدُ بإحداث ثورةٍ في مجال صناعة الحساسات الدقيقة (micro-sensors)، ومع الضرورة المُلحّة لإنتاج أجهزةٍ ذات استهلاكٍ أقلّ للطاقة وبأقلِّ تكلفة، ستساهم أنظمة MEMS بشكلٍ كبير في تكنولوجيا الحواسيب القابلة للرش بالنظر إلى قلّةِ تكلفتها وفعاليتها مقارنةً بالحواسيب العادية.
الحواسيب القابلة للرش:
ستسيطر قريباً فكرة الحواسيب القابلة للرش على تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، على جميع المستويات والأحجام، فيما يأتي؛ سنتعرّف على فكرة الأنظمة المبنية على هذه الشبكات من الحواسيب، وسنتدرّج في أحجام هذه الحواسيب بدءاً من الأبعاد الدقيقة للغاية (الحواسيب القابلة للرش بمعنى الكلمة)، ثم المتوسطة (الأجهزة المحمولة والملبوسة)، ثم العالمية (الإنترنت والويب).
أولاً: الحاسوب الميكروي:
تَمكّن علماءٌ من جامعة بيركلي بالولايات المتحدة الأمريكية من تنفيذ مشروع الغبار الذكي الذي هو عبارةٌ عن حواسيبَ صغيرةٍ جداً لا تتعدى أبعادها الميليمترين، مزودةٍ بوحداتٍ لاسلكية للتواصل فيما بينها، وتقوم باستشعار الضوء ودرجة الحرارة في الجو، وهذا ما يُعتبر خطوةً مهمةً ودليلاً قاطعاً على إمكانية بناء مثل هذا النوع من الحواسيب في المستقبل القريب ودمجِها بقدرات تواصلٍ وحساساتٍ ومشغلاتٍ موضعيّة، التي تمثّل مكوناتها الأساسية (للمزيد عن الحساسات اللاسلكية وبنيتها هنا ).
رسمٌ تخطيطي لنموذج مشروع الغبار الذكي من جامعة بيركلي
أبعادُ الوحدة المستخدمة في مشروع الغبار الذكي
الحواسيب القابلة للرش مثلما يتصورها الباحثون هي سحابٌ من الرقاقات الإلكترونية الدقيقة التي تُوزّعُ على وسطٍ أو سطحٍ معين برشها أو طلاءها. ثم بعد توضّعها على الهدف، تتواصل فيما بينها لاسلكياً منسّقةً نشاطها ككتلةٍ واحدةٍ مؤديةً وظائفَ ذكية. مثلًا لنفترض بخاخاً لتصليح المواسير، مؤلفاً من عدد كبير من وحدات MEMS التي تستكشفُ الماسورةَ باحثةً عن أية ثقوب، ثم تتجمع ذاتياً لتسدها.
تطبيقٌ آخر مثيرٌ للاهتمام وهو "البخاخ اللامرئي" الذي يتألف من غيومٍ من الأجهزة الميكروية التي تستقبل الإشارات الضوئية وتُعيد إرسالها للعيان بعد تغيير زاوية انعكاسها، فعندما يُغطى جسمٌ بطبقةٍ من هذا الأجهزة، تتواصل الوحدات فيما بينها لاسلكياً، فتستقبل الحواسيب الموجودة خلف الجسم إعدادات الضوء وترسلها للحواسيب الأمامية التي تُرسٍل إشاراتٍ ضوئية تُوحي بأن الجسم غيرُ موجودٍ أصلاً.
فيما يلي نستعرض أهم أجيال وحدات الغبار الذكي التي طورتها جامعة بيركلي من الأحدث إلى الأقدم:
حاسوب Golem Dust بحجم 11.7 ملم مكعب الذي يعمل على الطاقة الشمسية، والمزود بأجهزة استشعار واتصال مزدوجة الاتجاه
حاسوب Flashy Dust بحجم 138 ملم مكعب، أحادي الاتصال
الميزة الأساسية التي تميز الحواسيب القابلة للرش عن نظيراتها من الأنظمة الحوسبية الموزعة التقليدية لا تكمن في اختلاف حجمها فقط كما يتبادر إلى الذهن لأول وهلة، ففي النهاية طبيعة العمليات المنفذة على كلا النوعين تظل نفسها. الفرق يأتي على نقطتين، أولاً، هو أن شبكة الحواسيب تتشكل من عمليةٍ عشوائيةٍ بحتة (وهي الرش) وهي معرضةٌ للتغير مع الزمن بحسب ديناميكية الوسط، وثانياً، هو أن الشبكة تتألف من عددٍ كبيرٍ جداً من الوحدات ما يجعل التحكم في طريقة عمل كلّ وحدةٍ صعباً.
هاتان الخاصيتان تجعلان الأنظمة المبينة بهذه الطريقة ذاتيةَ التعديل وقابلةً للتكيف بشكلٍ سلس تبعاً لتغيرات الشبكة، وهذا دون وجود مشرف. بعبارةٍ أخرى، الحواسيب القابلة للرش تمثل المفهوم الحقيقي للأنظمة الحوسبية المستقلة.
ثانياً: الحاسوب ذو الأبعاد المتوسطة:
يُمكن أيضاً لتكنولوجيا الحواسيب القابلة للرش أن تُستخدمَ كمرجعٍ في الحوسبة السائدة وإنترنت الأشياء (للتعرف على المزيد عن الحوسبة السائدة وإنترنت الأشياء هنا)، مَن منا لا يحمل معه نوعين أو ثلاثة من هذه الأجهزة: حواسيب محمولة، هواتف ذكية أو أجهزة PDA؟ كما أنّ منها ما هو موجودٌ داخلَ منازلنا كالتلفاز الذكي، أو الهاتف.. إلا أن هذه الأنظمة ليست مُستغلةً بشكلٍ كامل، حيث أنه في المستقبل القريب سيتضاعف عددها في العالم، وبذلك يتضاعف عدد الشبكات ويتنوع، بين شبكات البلوتوث وشبكات الهواتف الخلوية وشبكات الأجهزة المنزلية.
رغم تنوع هذه الأجهزة واختلاف المسافات بينها مقارنةً مع شبكات الحواسيب القابلة للرش، إلا أنها تبقى تواجه نفس التحديات، فمن جهة: معظم الشبكات التي تربط بين هذه الحواسيب هي شبكاتٌ لاسلكية ذات بنيةٍ متغيرة تبعاً لموقع كلِّ جهازٍ بالنسبة لباقي الأجهزة، ومن جهةٍ ثانية، يبقى تطوير تطبيقاتٍ تعمل على هذه الشبكات مكلفاً لأنه يتطلب إعادة ضبطها في كل مرةٍ تتغير فيها ديناميكية الشبكة.
ثالثاً: البعد العالمي:
إن السرعةَ الهائلة التي تتطور بها شبكتا الإنترنت والويب، وكميةَ المعلومات الكبيرة المتدفقة خلالهما، إضافةً إلى الحاجة المُلحّة لتطوير إنترنت أشياء عالميّ، يجعل هده الشبكات مشابهةً لشبكات الحواسيب القابلة للرش، وهذا ما دفع الباحثين إلى البحث عن طرقٍ جديدة للتحكم في هذه الأنظمة الموزّعة.
برمجة الحواسيب القابلة للرش
المقصود ببرمجة الحواسيب القابلة للرش هو تطوير تطبيقاتٍ تعمل على شبكاتٍ مؤلفة من هذه الحواسيب، يقتضي العمل هنا توليدَ (أو هندسةَ) سلوكٍ معينٍ ثابت، انطلاقاً من تكاتفِ جهودِ مجموعةٍ كبيرةٍ من الوحدات الصغيرة الموزّعة بشكلٍ غيرِ منتظم على شبكةٍ متغيرة بتطوير خوارزميات وطرق للتحكم الذاتي في المجموعة.
كما رأينا سابقاً فإنه انطلاقاً من طريقة تفاعل الحواسيب فيما بينها على الشبكة (من حواسيب موزعة على بعدِ بضعةِ أمتار، إلى حواسيب متباعدة تتبادل المعلومات فيما بينها عبر الشبكة العنكبوتية) وعلى الرغم من تباين أحجامها، إلا أنها تُصنّف ضمن أحد أنواع شبكات الحواسيب القابلة للرش، وبذلك فهي تواجه نفس التحديات البرمجية، ما يستوجب البحثَ عن أساليبَ تحكمٍ وخوارزميات موزّعة جديدة وأكثر فعالية.
من جهةٍ، ولتفادي الجهدِ الكبير المبذول في إعداد وصيانة وتحديد مواضع الوحدات بالنسبة لبعضها البعض، تُعتبر أساليبُ التحكم المبنيّة على مبادئ التنظيم الذاتي (Self-organisation) والتي لا تتطلب تخطيطاً مُسبقاً ولا معرفةً بالوسط المضيف، الحلَّ الأنسب، حيث تَسمحُ للوحدات بتنظيمِ نشاطاتها ذاتياً، وتعديلِ السلوك العام اعتماداً على متغيراتٍ محتملة داخل النظام.
لكن ومن جهةٍ أخرى، فإن لامركزيّةَ واستقلاليّةَ هذه الأنظمة، إضافةً إلى صعوبة التنبؤ بالتغيرات التي يُمكن أن تحصل داخلها، يجعلها مرشحّةً لأن تُنتِج ما يُعرف بالسلوك المُنبثق (emergent behavior) غيرِ المتوقع، مثلما تدل العديد من الملاحظات في أنواعٍ من الشبكات اللامركزية (كـ شبكة الإنترنت، الويب). ولهذا ظهرت الحاجة إلى طُرُقٍ منهجيةٍ لتتنبأ وتتحكم في انبثاق أيِّ سلوكٍ غيرِ مرغوبٍ فيه أو حتى لتستغلّ وجوده في تنفيذ مهامَ موزعةٍ أكثرَ تعقيداً إن تطلّب الأمرً ذلك.
هناك أسلوبان رئيسيان للتحكّمِ في هذه الشبكات، إما بالهندسة المباشرة للتنظيم الذاتي (direct engineering) أو بتطبيق هندسةٍ عكسيةٍ عليه (reverse-engineering).
تقتضي الهندسة المباشرة للتنظيم الذاتي تطويرَ خوارزمياتٍ تعتمد على آليات التفاعل البسيطة داخل المجموعة، واستغلال هذه التفاعلات بين الوحدات للوصول إلى نتيجةٍ إجماليةٍ مترابطة؛ يُمكن تطبيقها مثلاً في التحكم والتنسيق بين حركةِ السيارات ذاتيةِ القيادة، أو في حركة روبوتات البحث عن مصابين في حالات الكوارث. بهذه الطريقة نستطيع من خلال التحكّم في السلوك الفردي للوحدات أن نحددَ السلوك النهائي للمجموعة، للمزيد حول مصطلح التنظيم الذاتي (self-organisation) والسلوك المنبثق (emergent behavior) (هنا).
أما في الهندسة العكسية، فإننا ننتقل تدريجياً من دراسة السلوك العام للمجموعة إلى السلوك الخاص لكل وحدة، يتطلبُ هذا الأسلوبُ الاستعانةَ ببرامجِ المحاكاة الحاسوبية، في النهاية وبعد دراسةِ مختلفِ الآليات التي تقف خلف سلوكٍ معيّن والتعمقِ فيها جيداً وإعادةِ إنتاجها حاسوبياً باستعمال المحاكي، تُصبح عمليةُ برمجتها على الواقع أمراً سهلاً عدا عن أنّ النظام الناتج سيكون متماسكاً بشكلٍ كبير. يُعتبر أسلوب الهندسة العكسية الأنسبَ في حالات الأنظمة شديدة التعقيد.
من أبرز مجالات البحث المرتبطة بشبكة الحواسيب القابلة للرش هو مشروع MIT عن الحواسيب عديمة الشكل (َAmorphous computing) والذي يَبحث عن نماذجَ برمجيةٍ لبرمجة مثل هذه الشبكات المؤلفة من آلاف الوحدات الحوسبية، وقد اختُرعت لهذا الغرض لغة GPL للعمل مع هذه الوحدات على الشبكات.
المصادر:
[01]. Spray Computers: Explorations in Self-Organization
Franco Zambonelli، Marie-Pierre Gleizes، Marco Mamei، Robert Tolksdorf
[02]. What is MEMS Technology?
[03]. SmartDust & Ubiquitious Computing
[04]. SMART DUST: Autonomous sensing and communication in a cubic millimeter
[05]. Amorphous Computing Programming Languages
Jacob Beal April، 2005
[06]. هنا
[07]. هنا