كتاب > روايات ومقالات
مراجعة رواية (كافكا على الشاطىء): لوحة فلسفية بخيوطٍ من الإبداع
(هاروكي موراكامي) هو روائيٌّ يابانيٌّ معاصر، نالت الكثيرُ من أعماله شهرةً عالميّة. درَس (موراكامي) الدراما في طوكيو، وسافر عدّةَ أسفارٍ إلى أوروبا والولاياتِ المتحدة الأمريكية، حيث درّس في جامعة برينستون. تأثَّر (موراكامي) منذ نشأته بالثقافة الغربيّة، ويظهر ذلك جليًّا في رواياته. كما نال عددًا من الجوائز، وحُوِّلت بعضُ رواياته إلى أفلام سنيمائية.
على عتبة رواية (كافكا على الشاطئ)، يُهيِّئ القراءُ أنفسَهم لمرافقة (كافكا) ابنِ الخمسةَ عشرَ عامًا، والذي فرَّ من منزله هربًا من قدره وبحثًا عن ذاته، مُثقِلًا حِملَه بكَومةٍ من الاحتمالات والتصوُّرات الغريبة، التي خلقها ماضٍ لم يتمكن من التصالح معه. وما نلبثُ أن نشدَّ رحالنا حتى نكتشفَ أننا قد عبرنا بوابة الزمن، لنجد أنفسنا في اليابان إبّان انتهاءِ الحرب العالمية الثانية. أما عالَمُ الحكاية الثالث، فيلفُّه السحرُ والخيال على نحوٍ لم يكن لنا أن نتنبّأَ به؛ فنلتقي (ناكاتا)، العجوزَ اللطيف، بطيءَ التفكير، وصاحبَ القدرة على التحدّث إلى القطط.
تنتمي الرواية بشكلٍ أساسيٍّ إلى تقاليدَ أدبيةٍ عدّة؛ منها الـ(bildungsroman)، الذي يصفُ رحلةً يخوضُها البطل في سنوات مراهقته للبحث عن ذاته، ويصلُ في نهايتها إلى مراحلَ من النضج الروحانيّ والفكريّ. كما تندرج (كافكا على الشاطئ) ضمن تقليد الواقعيّة السحريّة، والذي يعتمدُ على المزج في أحداث الرواية بين الحقيقة والخيال، كما يوحي اسمُه.
تَضِجُّ رائعةُ (موراكامي) بزَخْمٍ من التفاصيل التي تجعلُها عملًا فكريًّا من الطراز الرفيع؛ فهي مليئةٌ بالدّلالات التاريخيّة، والأدبيّة، والموسيقيّة، والكلاسيكيّة، والمعاصرة، بالإضافة إلى كمٍّ من الإشارات إلى الثقافة الشعبيّة، اليابانيّة والغربيّة على حدٍّ سواء؛ ما يُبرز معرفةَ الكاتب المذهلة في مجالاتٍ عدّة، وبراعتَه في نسج إبداعه الخاص بخيوطٍ من الواقع، مقدمًا لنا حكايةً يتوازن فيها هذان البُعدان بخفّةٍ وبراعة.
تعالج الرواية حشدًا من الأفكار الفلسفيّة؛ إحداها هي البحثُ المستمر عن المعنى، موضِّحةً عجزَنا عن حصر الظواهر المحيطة بنا ضمن تفسيراتٍ واضحةٍ مطلقة. ولا يقتصر تجسيدُها لهذه الفكرة في تطوُّر سير الأحداث فحسب، بل أيضًا في تغيُّر الرمزيّة التي تحملها بعضُ العناصر المهمّة في الرواية. على سبيل المثال، تنتقلُ رمزيّة «الدم» بسلاسةٍ، خلال ثلاثةٍ فصولٍ متوالية، ممثّلةً في أولها العنفَ الكامن في اللاوعي الإنسانيّ، لتتحول في ثانيها إلى تعبيرٍ عن استمرارية دورة الحياة، ثم تعود في الأخير إلى التذكير بعجز الإنسان وهشاشته.
كما تُزاوِج الروايةُ عناصرَ الصدفة؛ الإرادةَ الحرّةَ، والحتميّة؛ مما قد يبدو للقارئ مزيجًا متناقضًا، لا سبيلَ إلى طرحِه دون التعدّي على قوانين المنطق. بيدَ أن (موراكامي) ينجحُ في ذلك مزامنًا جنبًا إلى جنب عدّةَ عوالمَ مختلفة، نكتشف من خلالها كيف لأحداثٍ ثانويّةٍ، قد تبدو عبثيّةً في ذاتها؛ أن تكون جزءًا أساسيًّا من مخططٍ أكبرَ محالٌ تَفاديه. ويتبع الكاتبُ في ذلك أسلوبًا تصويريًّا، فهو يؤثِرُ أن يُرِيَ القارئ؛ ليَخلُصَ إلى النتائج بنفسه، فضلًا عن أن يحذوَ نهجًا تعليميًّا يفرض النهاياتِ عنوةً.
ومن الجدير بالذكر هنا، أنّ صُلبَ الرواية يجسِّدُ أسطورةَ الملكِ أوديب تجسيدًا معاصرًا؛ لذا، فإنّ الدوافع الجنسيّة تشكّل محرّكًا مهمًّا في تقدُّم أحداث الرواية. كما تَبرُزُ -في ضوء ما ذُكر- رمزيّةُ اسمِ (كافكا)، وهو اسمٌ مستعار اختاره البطل لنفسه، معناه (الغراب) بالتشيكية، وفي الثقافة اليابانيّة يرمزُ طائرّ الغراب إلى التدخّل الإلهيّ في حياة الإنسان. في الوقت ذاته، فإنّ حلمَ (كافكا) بأن يصبح أقوى فتًى في الخامسةَ عشرةَ في العالم؛ يُبرِزُ المفارقةَ بين رغبة الإنسان في المجابهة والتحدّي من جهة، وبين حتميّة قدرِه من جهة أخرى.
• معلومات الكتاب:
العنوان: كافكا على الشاطئ.
تأليف: هاروكي موراكامي.
اللغة الأصلية: اليابانية، وتتضمن هذه النسخة ترجمةً عن النص الإنجليزيّ للكتاب.
ترجمة: إيمان رزق الله - المركز الثقافي العربي - الدار البيضاء 2010.
عدد الصفحات: 626 صفحة.