كتاب > روايات ومقالات
مراجعة رواية (دِمْيان): مخاض البشرية في الإنسان.
«لم أكن أريد إلا أن أعيش وَفْقَ الدوافع التي تنبُع من نفسي الحقيقيّة، فلمَ كان ذلك بهذه الصعوبة؟!»
بهذا السؤال تبدأ رواية حياة (إميل سنكلير)، وتعود إلى أول تجرِبة تهزّ كِيانَه الطفوليَّ ذا العشرِ سنوات، فينهارُ الجدارُ الفاصل بين الصورة الصافية المتجانسة للعالم المهذَّبِ الفضيل في بيتِه وأسرتِه، والعالمِ الخارجيِّ الخطِر المخيف، في صدامٍ له مع صبيٍّ متنمِّر يسيطر عليه ويجعل حياته جحيمًا. ولأن هذا الصراع وُلد من مخاوفه وهواجسه الداخلية؛ فإنه يدفعه إلى عذاب ملازم طويل.
في ذروة معاناة (سنكلير)، يظهر (دِمْيان) ليساعده في كسر قيودِه، وتلمُّسِ دوافعه الداخلية. يبدو هذا الصديقُ لـ(سنكلير) «بدائيًّا، حيوانًا، رخامًا، جميلًا، باردًا، ميتًا، لكنه سرًّا مليءٌ بحياةٍ خرافيّة، ولا شيءَ حولَه إلا هذا الخَواءُ الساكن، هذا الأثير، الفراغُ الكوكبيّ، الموتُ الموحش!». إنّ ما يقف أمامه هذان الشابّان هو رحلةُ الإنسانِ الأزليّةُ في الحياة، والتي يشير إليها (دميان) لـ(سنكلير) من خلال رؤيته الخاصّة لأسطورة قابيل وهابيل، ونظرتِه إلى الصراع الأزليّ؛ في كَونِه نابعًا من أعماق النفس.
أما الأسطورة الثانية والمحتوية للأسطورة الأولى، التي تصبح ملازمةً لسعي (سنكلير) في رحلة حياته؛ فتأتي من رمز طائر أُسطوريِّ يشيرُ إليه (دِمْيان)، منقوشٍ على واجهة منزل أسرة (سنكلير)، وهو ربٌّ يجمع العناصرَ الإلهيّة والشيطانيّة. تجسّد هذه الاستعارةُ أحدَ أهمِّ أفكار الرواية، إذْ تعانقُ فكرَ الشخصيّاتِ الثنائيّة؛ فهناك (عالم النور) و(العالم المعتم)، وهناك الشرحُ المؤسَّسيُّ للمفاهيم مقابلَ الشروح الفرديّة المتمرّدة، كما يجد القارئُ على الدوام تذكيرًا بثنائيّة الإنسان الأزليّة؛ المتمثّلة في الذكر والأنثى.
تبدو حياةُ سنكلير للقارئ شبيهةً ببيئة الحضانة؛ إذْ تكشف لنا الروايةُ عناصرَ تنشئتِه الغنيّة، حيث كلُّ شيء له معنًى وهدف، وكذلك يدفع كلُّ شيء سنكلير إلى كسرِ حَبْسِه هذا والخروجِ منه؛ «يجاهدُ الطائر لأجل خلاصه من البيضة. البيضة هي العالَم. على مَن يولَد أن يدمّر عالَمًا. يطير الطائر إلى الإله، اسمُ ذاك الإله: (آبراكساس)».
وفي إغناء فريد لجوهر الرواية، يشارك سنكلير تفكيرَه وإدراكاتِه الخاصةَ الحميمةَ بتجرِبته في الرسم والتأمُّل، وفي موسيقى ما قبل باخ والإيطاليّين القدامى، التي يصفها بـ(التَّوْقِ والانصهار الكلّيِّ في العالم، الموسيقى الجاهدةِ للتحرُّر، والإصغاءِ المتحرِّق لروح المرء المعتمة، والاستسلامِ النشوانِ، والفضولِ العميق نحو الإعجاز». كلُّ شيء يدعو إلى التفكير والاختبار العميق بالنسبة لسنكلير، وإنّ ذِكْرَ الكاتب لـ(باسكاليا باكستيهود) ووصفَه لها بأنها «موسيقى حميمةٌ غريبة، غرقت في ذاتِها وراقبت ذاتَها» يدفع القارئ إلى البحث عنها والاستماع إليها: هنا .
ولعلّ أنسبَ سبيلٍ إلى فَهم الرواية هو قراءتُها من منظور (كارل يونغ) في التحليل النفسي للّاوعيِ الجَمْعيّ، والذي يعرّفه (يونغ) بأنه جزءٌ من النفس البشريّةِ غيرُ مكتسَبٍ، وغيرُ شخصيّ؛ بل هو موروثٌ ومؤلَّف من (طرازاتٍ أوّليّة - Archetypes)، ويعني (يونغ) بهذه العبارة أنماطَ شخصياتٍ مألوفةٍ لدى سائر البشر، ولطالما وُجدت في مختلِف المجتمعات. وكثيرًا ما نجد بطلَنا (سنكلير) يتخبّط في أحاسيسَ تتعدّى وجودَه، مشيرًا إلى أنها تعود إلى أجيالٍ سبقتْه بكثير. يشكّل التأكيدُ على هذه الصلة بين البطل وأسلافه جزءًا جوهريًّا من الرواية. ومن ناحيةٍ أخرى، فإننا نجد في (سنكلير) الذي يقابلنا في بداية القصّة؛ الطرازَ الأوّليَّ لـ(الشابِّ البريء)، بينما نجد في (دِمْيان) طرازَ (المرشد)، وأما والدةُ (دِمْيان)، باسمها الرمزيِّ (إيفا)؛ فهي تمثّل (الطبيعةَ الأمّ)، إذْ يدعوها سنكلير (الأمَّ الكونيّة).
وكما عوّدَنا هيرمان هيسه، فإنّ التعبيرَ الأدبيَّ هو أداتُه لنقل أفكاره وتأمّلاته في الكون والنفس البشريّة، وعلى هذا النحو، نلقى في (دِمْيان) رحلةَ شابٍّ للوصول إلى ذاته، مارًّا بمحطّات الشكِّ والذُّعرِ والوَحْدة، ليصلَ إلى برِّ الطمأنينة، فتركّزُ الروايةُ بذلك بشكلٍ أساسيّ على المحاكمات الفكريّة التي يواجهُها بطلُنا، أكثرَ من انهماكِها في صياغة حبكةٍ قَصَصِيّة معقّدة.
تنتهي الروايةُ باندلاع الحرب التي تُحتّم افتراقَ الصديقين، وبعد مرور الكثير من الأحداث الغنيّة بالمعنى، أحداثٍ وأوقاتٍ عاشها (سنكلير) وأناسٌ تعرف إليهم؛ تُعيدُنا (دِمْيان) إلى السؤال الذي افتُتحت به؛ «لمْ أكن أريدُ إلا أن أعيشَ وَفْقَ الدوافع التي تنبُع من نفسي الحقيقيّة، فلمَ كان ذلك بهذه الصعوبة؟!» وربما تُعيدُنا إلى قراءتِها من جديد!
معلومات الكتاب:
الرواية: دميان.
الكتاب: هرمان هسه.
المترجم: ممدوح عدوان.
عدد الصفحات: 143