الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية
الاتحاد الأوروبيّ - أهم المشاريع والمعاهدات المؤسَّسة (1)
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، أَمَلَتْ أوروبا أن تجدِّد قوَّتها على المسرح الدَّوْليّ، وأن تصبح القوّة العظمى الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية، فضلًا عن الرغبة التي فرضتها كارثةُ الحرب العالمية الثانية؛ في تحقيق السلام، وتسوية المنازَعات، وتسريع عجلة النموّ الاقتصاديّ في القارّة الأوروبية؛ فكانت الترجمةُ السياسية لهذه الآمال هي الجمعيّةَ الدَّوْليَّةَ للدول الأوروبية (الاتحادِ الأوروبيّ)، التي تأسَّست وَفْقًا لمعاهدة ماستريخت عامَ 1992.
علمًا أنّ الحلم في تحقيق الوَحْدة الأوروبية يعود تاريخيًّا إلى عصر النهضة الأوروبية، إذ بدأ مشروعًا فكريًّا في أذهان المفكِّرين ورجال القانون في أوروبا منذ القرن الخامسَ عشر، وكان المحرِّكُ الرئيسُ له دينيًّا يبغي تحقيق وَحْدة الغرب المسيحيّ في مواجهة المشرق الإسلاميّ؛ فعلى هذا الأساس طالب (بوديبراد) ملكُ بوهيميا في وثيقة (تراكتاتوس) عامَ 1464؛ بتوقيع ميثاق عدم اعتداء بين الشعوب المسيحيّة، يكون كفيلًا بمواجهة خطر الإمبراطوريّة العثمانيّة، لكن عاد الطرح بشكل أكثرَ قوّةً بعد الحرب العالمية الأولى؛ إذْ فَرَض الدمارُ الذي خلّفته الحرب والخلافات الحدودية على النخب السياسيّة الأوروبية البحثَ عن فضاء سياسيّ يخلُق إمكانيّاتِ التعاون المشترك، فطُرِحت مشاريعُ كان أهمَّها مشروعُ الوزير الفرنسيّ (أريستد بريان)، الذي طرحه في خطاب له أمام الجمعيّة العموميّة لعُصْبة الأمم في 5/9/1929، إذ دَفع بمشروعه؛ فكرةِ الوَحْدةِ الأوروبية؛ إلى طاولة المفاوضات[1]. إلا أنّ صعود الأحزاب القومية في ألمانيا وإيطاليا، وتفاقُمَ الأزمة الاقتصاديّة؛ قَضَيا على المشروع الفرنسي[2]، كما أنّ اندلاع الحرب العالمية الثانية شلَّ كل محاولات تحقيق الحلم الأوروبيّ ومشاريعِه، لكنّ نهايتَها كانت اللحظةَ التاريخيّةَ التي آن بها أوانُ الجِدّيّةِ والتطبيقِ العمليّ للوَحْدة الأوروبية؛ فكانت نشأةُ الاتحاد الأوروبيّ، الذي مرّ بمراحلَ عدّةٍ حتى وصل إلى شكله ومهامّه الحاليّة.
بدايةً، عُقِد مؤتمران مهمّان مَهّدا الطريق لتوقيع أولى المعاهدات التأسيسيّة للاتحاد الأوروبيّ، ففي آب من عام 1947 عُقِد مؤتمر في مونترو دعا إلى إقامة ولايات متحدة أوروبية، وفي أيار من عام 1948، عُقِد مؤتمر في لاهاي يعود إليه الفضل في تأسيسها، وبناءً عليهما وُقِّعت أوّل معاهدة تأسيسيّة للاتّحاد الأوروبيّ، وهي المعاهدةُ التي أَنشَأت الجماعةَ الأوروبيةَ للفحم والصُّلْب، بين فرنسا وألمانيا الغربيّة، وكذلك بلجيكا وإيطاليا ولوكسمبورغ وهولندا، وقد بدأ وزيرُ الخارجية الفرنسيُّ روبرت شومان في أيار 1950 مشروعَ الجماعة الأوروبية؛ في إعلانه أنّ أيَّ حرب بين فرنسا وألمانيا أصبحت غير واردة، بل مستحيلة[3]. وبعد مفاوضات استمرت سنة، وُقِّع على المعاهدة في باريس، في الـ18 من نيسان عام 1951، ودخلت حيِّزَ التنفيذ في حزيران عام 1952.
كانت الأولويّةُ السياسيّةُ للجماعة الأوروبية بالنسبة للدولتين المؤسِّستين الأساسيّتين؛ فرنسا وألمانيا؛ هي إيجادَ سبلِ التعايش في ظلِّ سلام دائم، وقد رأت فرنسا في الجماعة الأوروبية مشروعًا واعدًا لدمج ألمانيا في إطار مؤسَّسيّ بدلًا من إخضاعها، ووَجدت ألمانيا في هذا الإطار ملاذًا لإقامة علاقات سلميّة، إضافةً إلى أنّ الجماعة الأوروبية كانت بالنسبة إليها المكانَ الذي تستطيع به استعادةَ سمعتها، التي أضرّت بها مدّةُ الحكم النازيّ. أما المؤسِّسون الأربعةُ الآخرون فقد رحّبوا مثلَ فرنسا بدمج ألمانيا؛ لضمان السلام بين الدول الأوروبية. وقد رَفضت بريطانيا إعلان شومان؛ من منطلق الحرص على سيادتها، ولا بد من التذكرة بأن بريطانيا لم تمرَّ بتجرِبة الهزيمة والاحتلال مما يدفعُها إلى تقاسُم سيادتِها، أو يجعلُ لديها هاجسًا أمنيًّا من الانضمام إلى جمعية أوروبية، إذْ كانت ترى أنّ الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية وحلف شمال الأطلسي؛ كافٍ. ومن هنا جاء التركيز على الجوانب الاقتصادية للتكامل من قبل بريطانيا، فقد دخلت السوقَ الأوروبية المشتركة في عام 1973 (في هذا العام، انضمّت الدنمارك وأيرلندا إلى الجماعة الأوروبية). ولا شكّ أن الدافع السياسيّ لنشوء الجماعة الأوروبية؛ ما كان لينجحَ دون الجانب الاقتصاديّ؛ فالنجاح الاقتصاديُّ الذي حقّقته إزالة الحواجز بين مصانع الصُّلْب لألمانيا وفرنسا وبلجيكا ولوكسمبورغ؛ شجّع الدول السِّتَّ المؤسِّسة على استكمال مسيرة التكامُل الاقتصاديّ، وتوقيع معاهدتيْ روما في 25/2/1957، والتي وُلِدت بموجَبها الجماعةُ الاقتصاديّة الأوروبية، والجماعةُ الأوروبية للطاقة الذريّة، اللتان سُمِّيتا المجموعةَ الاقتصاديّةَ الأوروبية، وقد دخلتا حيِّزَ التنفيذ عامَ 1958.
نصّت معاهدتا روما على إحداث سوق أوروبية مشتركة، وإقامة وَحْدة جمركية، واتّباع سياسات مشتركة (في الزراعة، والتجارة، والنقل). ثم تأتي اللَّبِنةُ الثالثة في تأسيس الاتحاد الأوروبيّ، ألا وهي القانونُ الأوروبيُّ الموحَّد، الذي نَصَّ على إنجاز السوق الموحَّدة بحلول عام 1992، وكان القانونُ وليدَ مشروعِ معاهدة الاتحاد الأوروبيِّ الذي أعدّه البرلمانُ الأوروبيُّ في الثمانينيّات من القرن العشرين، ومشاريعِ السوق الموحَّدة التي دعمتها مؤسسات الأعمال الكبرى. وبعد انضمام اليونان عام 1981، وانضمام إسبانيا والبرتغال عام 1986، بعد سقوط أنظمتها الدكتاتوريّة، أرادت الجماعة الأوروبية أن تدعم هذه الدولُ مشروعاتِها؛ لذا نَصَّ القانون الموحَّد على سياسة التمسُّك بمضاعفة الصناديق البنيويّة؛ للمساعدة على تطوير المناطق الضعيفة اقتصاديًّا.
تلا ذلك معاهدةُ (ماستريخت) التي وُقِّعت في 7/2/1992، ودخلت حيِّزَ التنفيذ في تشرين الثاني عام 1993، والتي عُدَّت أهمَّ اتفاقيّاتِ الاتحاد الأوروبيّ؛ لما دعت إليه من وَحْدة سياسيّة واقتصاديّة لتوسيع مفهوم الوَحْدة السياسيّة، وقد أُبْرِمت بعد توحيد جُزْأَيْ ألمانيا، وأَعطت للجماعة الأوروبية اسمَ الاتحاد الأوروبيّ، كما جاءت لتُرْفِقَ نجاح السوق الموحدة؛ بالتوجُّه نحو عملة موحدة (عملةِ اليورو، التي تعتمدها 19 دولةً في الاتحاد الآن)، وكان الباعثُ الرئيس للتوجُّه نحو توحيد العملة: رؤيةَ فرنسا أن ذلك هو السبيلُ إلى ربط ألمانيا بنظام الجماعة الأوروبية. وبدخول المعاهدة حيِّزَ التنفيذ، كانت مفاوضاتُ الانضمام مع النمسا وفنلندا والسويد قد بدأت، حتى انضمّت كلُّها عام 1995، ليصبح عددُ الأعضاء خمسةَ عشر. ومع هذا التوسُّع في العضوية، وُقِّعت معاهدة (أمستردام) عامَ 1997، ودخلت حيِّزَ التنفيذ عام 1999، مُدْخِلةً تعديلاتٍ مهمةً على معاهدة الاتحاد الأوروبيّ، لا سيما التركيزَ على تحقيق الحرّيّات الاجتماعية والتوظيف، وتوسيعَ سُلُطاتِ البرلمان الأوروبيّ على حساب المفوضيّة الأوروبية. ومن ثم وُقِّعت اتفاقيةُ (نيس) عامَ 2001، ودخلت حيِّزَ التنفيذ عامَ 2002، لتشكل خطوة مهمة في توسيع الاتحاد الأوروبيّ أمام دول أوروبا الشرقية والوسطى والمتوسِّطيّة والبَلْطيقيّة، إذ انضمّت الجمهوريةُ التشيكيّةُ وقبرص وإستونيا والمجر ولاتفيا وليتوانيا ومالطة وبولندا وسلوفاكيا وسلوفينيا؛ عام 2004. ثم انضمّت بلغاريا ورومانيا عام 2007، ليصبح عدد أعضاء الاتحاد الأوروبيِّ 27 دولة، وقد انضمّت كرواتيا حديثًا؛ عامَ 2013. ثم جاءت اتفاقية (لشبونة) عام 2007، ودخلت حيِّزَ التنفيذ عام 2009، وحلَّت محل الدستور الأوروبي الذي أُقِرَّ سابقًا عام 2001، وهَدَفت إلى الإصلاح المؤسَّسيّ، وهي المعاهدة التي ترتكز عليها بريطانيا في مادّتها الخمسينَ للخروج من الاتحاد؛ إذْ تحدد المادةُ الخمسونَ سُبُلَ الانسحاب الطَّوْعِيّ من طرف واحد ودون تبرير. وبذلك سيصبح عدد أعضاء الاتحاد الأوروبيّ 27 عضوًا.
وبالنظر إلى تجرِبة الاتّحاد الأوروبيّ، يمكن القول بأن هذه التجرِبة تُعدّ أهمَّ تغيير في الجغرافيا السياسية للدول الأوروبية؛ فبالرغم من ويلات حروب القرنِ العشرينَ التي أنهكت اقتصاديّاتِ الدول الأوروبية؛ تَركت هذه الدول الكثير من خلافاتِها من أجل بناء مستقبل يجعلُها قوةً عظمى، لكنّ إعلان الانسحاب البريطانيّ يُعدّ انتكاسةً حقيقيةً للوَحْدة الأوروبية، فضلًا عن المخاوف من تأثير الدومينو والانسحابِ المتتالي لبقية الدول الأوروبية. وفي المقال التالي سنتناول علاقة بريطانيا مع الاتحاد الأوروبيّ، والسيناريوهاتِ المحتملةَ لخروج بريطانيا منه.
المراجع:
[1] أنس المرزوقي، مراحل بناء الاتحاد الأوروبيّ، الحوار المتمدن، هنا 13/1/2014.
[2] أحمد سعيد نوفل، الاتحاد الأوروبيّ في مطلع الألفية الثالثة: الواقع والتحديات.
[3] جون بيندا وسايمون أشروود، الاتحاد الأوروبي، ترجمة خالد غريب علي، الطبعة الأولى، 2015، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، مصر، القاهرة.