علم النفس > المنوعات وعلم النفس الحديث
الخلفية التطورية لجرائم إطلاق النار الجماعي
هل يخلق الانسان مجرماً أم تجعله ظروفه كذلك؟ سؤال يتبادر إلى أذهاننا كلما سمعنا خبراً مروعاً عن جريمة قتل.
في مقالنا هذا نتناول وجهة نظر علم النفس في دوافع ارتكاب جريمة إطلاق النار الجماعي.
لمزيد من التفاصيل تابعوا مقالنا التالي.
في كل مرةٍ نسمع بحادثةٍ مفزعةٍ تتعلق بإطلاق نار جماعي تطل علينا الحقائق الإحصائية التي تربط معظم الجرائم بالرجال، حيث يرتكبون أكثر من 85% من جرائم القتل بشكل عام، وأكثر من 91% من جرائم القتل متماثلة الجنس بين القاتل والضحية (ذكر لذكر)، و97% من جرائم القتل متماثلة الجنس التي لا يوجد فيها أي صلة بين القاتل والضحية.
وفي كل مرة، يعرض السياسيون ووسائل الإعلام نموذجاً معتاداً من الشبهات في مسببات هذه المأساة، كوجود مرضٍ عقليٍّ غير مشخّص يعاني منه المشتبه به، أو يعزون الأمر إلى سهولة اقتناء الأسلحة مثلاً.
إلا أن جميع هذه التفسيرات تحومُ دائماً حول السؤال الرئيسيّ: لماذا نجدُ دائماً خلف حوادث إطلاق النار الجماعي رجلاً؟ ولماذا يكون رجلاً شابّاً في كل الحوادث تقريباً؟
يمكن لعلم النفس التطوري أن يقدم لنا بعض التفسيرات.
الرجولة المُزعّزعَة precarious manhood:
صاغ عالما النفس جوزيف فانديلو وجينيفر بوسون "Joseph Vandello and Jennifer Bosson" هذا المصطلح لوصف معضلة يبدو أنها تواجه الرجال حصراً.
باختصار، يناقش العالمان أن الرجولة -أياً يكن تعريفها في الثقافة الفردية الخاصة بكل ذكر- هي منزلة يجب على الذكر أن يكسبها باستمرار، كما وأن التقدير الذاتي لديه مرتبط بصورته "كرجل حقيقي".
يُشكّل الأمر مُعضلة وتتزعزع هذه الرجولة، لأن صورة "الرجل الحقيقيّ" يمكن أن تضيع بسهولة، خاصة إذا فشل الذكر في الارتقاء لمستوى تحديات الحياة القاسية، سواءً كانت تختبر شجاعته الجسدية، أو تضعه في منافسة مع رجال آخرين لنَيل الاحترام والمكانة.
عندما عرضتُ هذه الفكرة على تلاميذي الذكور أدرَكوا فوراً ما أتحدث عنه، أما عندما قدمتها للنساء وسألتُ إذا كان لديهن مفهوم مقابل أنثَوي للرجولة المزعزعة قُوبلت بنظرات استفهام (مع ملاحظة أن عدم القدرة على الإنجاب يمكن أن تعتبر تهديداً لأنوثة المرأة)، وفعلاً اتضح خلال المناقشة التي تَلت عرض الفكرة أن "الرجولة" هي مفهوم أعلى قيمةً من "الأنوثة".
تكمن جذور هذه المعضلة الذكورية في ماضينا ما قبل التاريخ، ففي مملكة الحيوان، غالباً ما يكون الذكور هم الذين يتنافسون فيما بينهم لأجل الشريك الجنسي لممارسة الجنس بُغية إنتاج الذرّية.
على الصعيد التاريخي، يحظى الرجال الأقوياء بقدرة على الوصول إلى النساء جنسيّاً أكثر من الرجال الأدنى منهم مرتبةً، كما يلعب العنف دوراً في هذه المنافسة الشرسة لأجل الحصول على المنزلة.
قضى العالم نابليون شاغنون "Napoleon Chagnon" المختص بعلم الإنسان سنوات يدرس فيها أفراد قبيلة يانومامو "Yanomamo" في أميركا الجنوبية، حيث اكتشف أن الرجال الذين قتلوا رجالاً آخرين حصلوا على زوجات أكثر من الرجال الذين لم يقتلوا أحداً أبداً، وتبين جميع المؤشرات أن مكانة الرجل في الجماعة تعتمد على المدى الذي يكون فيه هذا الرجل قادراً على التهديد بعنفٍ جسديّ حقيقي.
لا شكّ أن صراع الرجل في البحث عن الهيمنة يلعب أدوراً مُتعددة عبر الحضارات المختلفة، ولكن من الواضح أن ما تُحققه تلك الهيمنة من إرضاءٍ ومكافئات لأولئك الذين يطالونها هو مبدأ كونيّ محفز لكل الذكور، أو كما صاغها الباحث جوناثان غوتشال "Jonathan Gottschall" :
(إنّه لشعور يبعث على النشوة أن تهيمن جسدياً على رجل آخر).
وبالتالي يصبح العنف الممارس ضد الأشخاص المناسبين وفي الوقت المناسب مفتاحاً للنجاح على الصعيد الاجتماعي.
الدوافع التنافسية:
لأسباب تطورية وجيهة يجد الشباب أنفسهم قلقين بشان المكانة والسيطرة بشكلٍ خاص، ففي المجتمعات الإنسانية المبكرة، يحدد النجاح أو الفشل في المنافسة خلال فترة الشباب الأولى موقع الفرد في الجماعة طيلة حياته، ولا يمكن إعادة المحاولة ببساطة والانضمام إلى جماعة أخرى، لذلك يُعدُّ ما يحدث في مرحلة النضج المبكر أمراً هاماً جداً.
لهذا السبب تقدم المنافسات الخطرة جداً بين الذكور فرصةً للتباهي بالقدرات المطلوبة لإحراز الثروة وإظهار القوة والتصَدّي لأيّ تحديات من شأنها زعزعة مكانة الفرد.
وهكذا يُقابَل السلوك البطولي وحتى الخطر والمتهور بالمكانة والاحترام، وهذا بالتأكيد على فرض أن الشاب قد نَجا من محنة المنافسة.
كما أن الانتشار الواسع للرياضة في حضارتنا هذه الأيام جعلها بديلاً بنَّاءً للتعامل مع النزعات الشبابية التي تطوّرت لدى الإنسان في وقت سابق مختلف تماماً عن الآن، وهكذا يتمكن الشباب ضمن نطاق قانوني آمن من استعراض مهاراتهم من رميٍ وضربٍ وركضٍ ومصارعة والقدرة على تثبيت الخصم إضافة إلى التناسق اليدوي البصري، وهي المهارات التي كانت لتجعلهم محاربين أو صيادين ناجحين في بيئة أسلافنا.
مُتلازمة الذكر الشاب young male syndrome:
ليس سراً أن أغلب الناس يخشون السلوك العنيف الصادر عن الشبان أكثر من العنف الصادر عن الأفراد الأكبر سناً، والحقيقة أن هناك أساساً سليماً لهذا الخوف، فقد حفز ميل الذكور للانخراط في السلوك الخطر والعدواني عالما النفس الكنديان مارغو ويلسون ومارتن ديلي "Margo Wilson and Martin Daly" لتسمية هذه الظاهرة بمتلازمة الذكر الشاب.
درس الثنائي العلاقة بين العمر، الجنس، والوقوع ضحية لجرائم القتل في الولايات المتحدة في عام 1975، حيث وجدوا أن احتمالية تعرض المرأة للقتل لا تتغير بشكل كبير على مدى حياتها ولكن من جهة أخرى فإن نمط الاحتمالات لدى الذكور يثير الدهشة، حيث تكون احتمالية التعرض للقتل متساوية في عمر 10 سنوات بين الذكور والإناث، ولكن في الوقت الذي يصبح فيه الذكر في العشرينات تصبح احتمالية تعرضه للقتل أكبر بستة أضعاف.
وحسب معطيات ويلسون وديلي، فإن 87% من 598 ضحية لجرائم القتل التي حدثت في مدينة شيكاغو في عام 2003 كانوا ذكوراً، و64% من الضحايا كانت أعمارهم بين 17 و30، إن احتمال وقوع الذكر ضحية للعنف القاتل يصل إلى أقصاه بين فترة المراهقة المتأخرة ونهاية العشرينات، قبل أن ينخفض باطراد لبقية حياته.
وتُأجّج الطبيعة نيران العنف لدى الذكور بتزويدهم بمستويات مرتفعة من التستوستيرون لتحقيق هذه الغايات.
أظهرت الدراسات على الشمبانزي -أقرب أقرباءنا من الحيوانات الرئيسية- أن الذكور المرغوبين من الشمبانزي قد أظهروا أعلى مستوياتٍ في كل من العدائية والتستوستيرون، ناهيك عن أن جميع ذكور الشمبانزي يختبرون أعلى مستوياتٍ من التستوستيرون أثناء تواجدهم مع إناثٍ في مرحلة الإباضة، الأمر الذي يرفع مستويات العدائية دون أن تترافق بزيادة في النشاط الجنسي الفعلي.
وهكذا استنتج الباحثون الذين درسوا العلاقة بين التستوستيرون والعدوانية لدى الإنسان أن التستوستيرون يغذي العنف على الأرجح عندما يكون الذكر في منافسة مع ذكور آخرين، أو عندما تتعرض مكانته للتهديد بشكلٍ ما.
ويبدو من ذلك كله أن زيادة التستوستيرون تدعم السلوكيات التنافسية المطلوبة للتصدي للتحديات أياً كانت هذه السلوكيات حتى وإن كانت تعني عنفاً جسدياً.
أظهرت العديد من الدراسات أن مستويات التستوستيرون يمكن أن تشهد انخفاضات وارتفاعات تتناسب مع خسارة الفرد أو فوزه في الرياضات التنافسية كالتنس والمصارعة وحتى الشطرنج، وحتى المشجعين الرياضيين يمكن لهم أن يختبروا هذه التغيرات، الأمر الذي قد يفسر العنف وأعمال الشغب التي نشهدها غالباً بعد المباريات الكبيرة.
وجود السلاح الناري:
إذاً ما الذي تضيفه الأسلحة النارية لهذه المعادلة العنيفة؟
في دراسة أُجريت عام 2006 وُجدَ أن الذكور الذين تعاملوا مع مُسدسات أظهروا ارتفاعاً أكبر في مستويات التستوستيرون وفي السلوك العدائي أكثر من الذين تعاملوا مع لعبة مصيدة الفئران.
في الدراسة، قام كل مشارك بتفكيك الغرض الذي كان معه سواءً كان مسدساً أو مصيدة فئران، وتعامل مع مكونات الغرض ثم كتب تعليمات حول كيفية إعادة تجميع الغرض.
ثم أعطيت الفرصة للمشاركين ليضعوا صلصة حارّة في ماء سيتم استهلاكه من قبل شخص آخر، قام المشاركون الذين تعاملوا مع السلاح الناري بوضع صلصة حارّة بمقدار أكبر بكثير من المشاركين الذين تعاملوا مع المصيدة، حتى أنه كان من المرجح أن يظهروا خيبة أمل بعد معرفة أن لا أحد فعلاً سيشرب ذلك الماء.
وهكذا يظهر واضحاً أن التهديدات لن تشكل سلوكاً عدوانياً ما لم يتدخل التستوستيرون في الأمر، حيث نرى أن إليوت روجر "Elliot Rodger"، الطالب الجامعي المختل المسؤول عن المجزرة التي حدثت في 2014 في سانت باربرا، كاليفورنيا، والتي كان يمكن توقعها بناءً على الفيديو الباعث على القشعريرة الذي عرضه على اليوتيوب إبان الحادثة، قد اختبر فورة من تستوستيرون عند شراءه لأول مسدس حيث قال: "بعد أن أمسكت المسدس أخذته إلى غرفتي وشعرت بإحساسٍ جديد بالقوة، من هو الذكر ألفا الآن أيتها السافلات؟" (الذكر ألفا هو الذكر المسيطر على قطيع من الحيوانات).
المسؤول عن إطلاق نار جماعي هو فاشل عديم الأهمية:
إن العنف الذي يصدر عن الذكور الشبّان على الأرجح يُرتكب من قبل أولئك الذين لا يتلقون احتراماً من الآخرين، وغالباً ما يشعرون أنهم مهانون ومنبوذون ومحرومون من الأشياء التي يريدونها أو التي يعتقدون أنهم يستحقونها.
عالم النفس البريطاني بول جلبرت "Paul Gilbert" طوّر مفهوماً سماه "نظرية الاستحواذ على الانتباه الاجتماعي social attention holding theory"، وحسب مفهوم جلبرت فإننا نتنافس فيما بيننا للحصول على الانتباه من الآخرين، لأن ملاحظة الآخرين لنا تمكننا من الحصول على المكانة، وازدياد المكانة الذي يَتأتّى عن جعل الآخرين ينتبهون لنا يترافق مع كافة أنواع المشاعر الإيجابية، ولكن التعرض للتجاهل من قبل الآخرين وبشكلٍ مستمر يُنتج مشاعر مظلمة خاصةً الحسد والغضب، ولذلك لم يعد لغزاً السبب وراء وصف وسائل الإعلام المسؤولين عن ارتكاب جرائم إطلاق النار الجماعي غالباً بأنهم منبوذون أو منعزلون، فهم كذلك حقاً في العديد من الحالات.
نيكولاس هينن "Nicolas Henin" رجل فرنسي كان قد احتُجِزَ رهينة من قبل إرهابيي الدولة الإسلامية للعراق والشام ISIS لمدة عشر شهور، وَصف مُحتجزيه الجهاديين القتلة الشبان، بالكلمات التالية:
إنهم يقدمون أنفسهم للجماهير كأبطالٍ خارقين، ولكنهم بعيداً عن الكاميرا كانوا مثيرين للشفقة بأشكال عدّة: أطفال شوارع عُقولهم مُتخمة بالعقيدة والسلطة.
لدينا تعبير في فرنسا يقول: (مغفل وشرير)، وقد وجدّتهم مغفلين أكثر منهم أشراراً، وهذا لا يقلل من إمكانيات القاتل النابعة من غباءه.
على ما يبدو فإن الانتباه القليل الذي يستجذب من الآخرين يعني مكانة أقل، وبالنتيجة وصولاً أقل إلى النساء، وإذا ما أضيف إلى ذلك الشباب وما لديه من تستوستيرون ينتج لديك مزيجٌ سام وسريع الاشتعال.
ربما ليس هناك كثيرٌ لنفعله إزاء تغيير تركيبة عقول الذكور الشبان التي تطورت عبر ملايين السنين، ومع ذلك فإن تجاهل أو إنكار وجودها لا يجعل الأمر أفضل على الإطلاق.
المصادر: