الفيزياء والفلك > فيزياء
ميكانيك بوم _الجزء الأول: تفسيرٌ بديلٌ يختلف عن تفسير كوبنهاغن
تجربةٌ جديدةٌ قد تُعيدُ نظريّة الموجةِ المُتحكّمة " Pilot-wave theory" إلى الواجهة مُجدّداً، وقد تُبطِلُ كلّ الانتقادات الطّاعنة بها. تُعدُ هذهِ النّظريّة صيغةً بديلةً لميكانيك الكمّ، وتتميّزُ بأنّها تتجنّبُ الألغاز الأكثرَ غموضًا للكونِ دون الذّرّيّ، وتحديداً ذلك الّذي ينصّ بأنّ الجُسيماتِ لا تكونُ موجودةً في الواقع حتى نُدرِكها*. هذا بالضّبط ما يريدُ منّا النموذجُ القياسيّ لميكانيكِ الكمّ تصديقَه، والّذي يُدعى "تفسير كوبنهاغن".
يُخبِرُنا ميكانيك الكمّ بأنّهُ عِوضًا عن المواضع والحركاتِ الواضحة تماماً الّتي تتميّزُ بها الفيزياء النيوتونيّة (فيزياء نيوتن)، لدينا سحابةٌ من الاحتمالات الّتي تُعرّفُ رياضياتياً على هيئةِ دالّةٍ موجيّة. تتطوّرَ هذهِ الدّالّة الموجيّة بمرور الوقت وفقَ قواعدَ مُنظّمةٍ ضمن ما يُسمّى "مُعادلة شرودنغر".
يُمكننا اعتبارُ ميكانيكِ الكَم القياسي ناجِحًا مِن النَاحية الرياضيّة، لكنّ الأمر ليس كذلك تماماً بالنّسبةِ للمواقعِ الفعليّة للجُسيمات؛ إذ لا يمكننا معرفةُ شيءٍ حول موقع الجسيم حتّى نقوم برصده.
اعترضَ عُلماءٌ كُثيرون على هذه الفكرة، وكان ألبرت آينشتاين واحداً منهم؛ إذ يَذكُر كاتِبُ سيرةِ آينشتاين الذاتيّة أبراهام بايز: " تناقشنا كثيراً حول تصوّراته عن الواقِع الموضوعيّ*. أذكرُ أنّه مرّةً أثناء المشي توقّفَ فجأةً والتفتَ إليّ وسألني عمّا إذا كُنتُ أعتقِدُ حقّاً بأنَّ القَمرَ موجودٌ فقط عندما ننظُرُ إليه".
هنالك وجهةُ نظرٍ أُخرى ما زالت قائمةٌ مُنذُ قرنٍ تقريبًا، تقولُ بأنّ الجُسيماتِ تتّخذُ مواقعَ مُحدّدةً في جميع الأوقات. تُعرفُ وجهةُ النّظرِ البديلةِ هذه باسم "نظريّة الموجة المُتحكّمة" أو "ميكانيك بوم Bohmian mechanics"، والّتي لم تلقَ شعبيّةً كشعبيّة تفسيرِ كوبنهاغن، وذلك لأن ميكانيك بوم يفترضُ بأنّ العالمَ غريبٌ بصورةٍ مُختلفةٍ.
في العام 1992 زعمَت دراسةٌ بأنّها ستُبيّن بعض النتائجِ الغريبةِ لميكانيك بوم، وبذلك وجّهت هذهِ الدراسةُ ضربةً قاضيةً للمنطق. إذ خلُصَ الباحثون في تلك الورقةِ إلى أنّ الجُسيماتِ وفقًا لقوانين ميكانيك بوم تتّخذُ في نهاية المطافِ مساراً غيرَ طبيعيٍّ وصفوهُ بأنهُ "سريالي"، الأمرُ الّذي يُعتبرُ جنونيًّا حتى بالمُقارنةِ مع الأساسيّاتِ الغريبةِ لميكانيك الكمّ.
قامت مجموعةٌ من العلماءِ بعد نحوِ رُبعِ قَرنٍ بإجراءِ تجرُبةٍ في مُختبر تورونتو بِهدفِ اختبارِ هذهِ الفكرة. إذا صمدت نتائجُ هذه التّجربة؛ الّتي صدرت في بدايةِ هذا العام، وأُثبتت صحّتها، فإنّ وجهة نظرِ بوم بالنسبة لميكانيك الكم - وهي أقلُّ غموضاً ولكن أكثرُ غرابةً من وجهة النّظر التقليدية - قد تكونُ في طريقها للعودةِ إلى الواجهة.
إنقاذُ مواضعِ الجُسيمات:
طوّر لويس دي برووي "Louis de Broglie" مبادئ ميكانيك بوم في عام 1927، وقام ديفيد بوم "David Bohm" بصياغتها بشكلٍ مستقلٍّ في عام 1952، واستمرّ بدراستها حتى وفاته في عام 1992. لذلك تُدعى هذه النّظريّة أحيانًا باسم "نظرية دي برولي - بوم". وكما هو الحالُ مع النّظريّة الّتي تعكس وجهةَ نظر كوبنهاغن، فإنّ هُناك دالةٌ موجيّةٌ تَحكُمها معادلة شرودنجر، وتفترضُ هذه النّظريّة أنّ لكلّ جسيمٍ موقعٌ فعليٌّ واضحٌ حتّى وإن لم نُدركهُ. أمّا بالنّسبةِ للجُسيمات المُتحرّكة فإنّهُ من الممكن تحديدُ مواقعها اعتماداً على مُعادلةٍ أُخرى تُدعى معادلةُ "الموجةِ الموَجِّهة". تتميّز هذه النّظريّة بأنها حتميّةٌ تماماً؛ وهذا يعني أنّك إذا عرفتَ الحالةَ الأوليّةَ للنّظام ولديك دالّةٌ موجيّةٌ تُعبّر عنه، فإنّه يمكنكَ حسابيّاً تحديدُ مكانَ كلِّ جُسيمٍ في نهاية المطاف.
قد يبدو هذا وكأنّه عودةٌ إلى الميكانيك الكلاسيكيّ، لكنّ الأمرَ مُختلف. فالميكانيك الكلاسيكيّ "مَحلّيّ"؛ بمعنى أنّ الأجسام لا يمكنُ أن تؤثّر في بعضها البعض إلّا إذا كانت مُتلاصقة، أو عن طريق تأثير نوعٍ ما من الحقول (كالحقل الكهربائي الّذي لا تتجاوزُ سُرعةُ نبضاته سُرعةَ الضّوء)
في المقابل فإنّ ميكانيك الكم "لا مَحلّيّ"؛ أي أنّه من غير الضروريّ أن تكونَ الجسيماتُ متّصلةً فيزيائيّاً حتّى تؤثّر ببعضها البعض. وعندما يرتبطُ زوجٌ من الجسيمات، فإنّ حالة كلّ منهما تتأثّر بحالة الجسيم الآخر حتّى لو كانتِ المسافةُ الفاصلةُ بينهما كبيرةً.
سَخِر آينشتاين من هذهِ الفكرةِ وأسماها " التأثير الشَبَحيّ عن بُعد"، لكنّ مئاتِ التّجارب مُنذُ الثّمانينات أكّدَت أنّ هذا الفعل الشّبحيّ هو سمةٌ حقيقيةٌ لكوننا.
أمّا في ميكانيك بوم فإن "اللا محلّيّة" جليّةٌ أكثر؛ إذ يعتمدُ مسارُ أيّ جُسيمٍ على مسارِ الجُسيماتِ الأخرى الموصوفةِ بالدّالّة الموجيّة ذاتها. والدالةُ الموجيّة تبعاً لميكانيك بوم ليس لها حدودٌ جغرافيّة، إذ يُمكنُ أن تمتدّ دالّةٌ موجيّةٌ لتشمل جسيماتِ الكونِ كلّه شرطَ أن تنطبقَ عليها الدّالّة ذاتها. ممّا يعني أن الكونَ مترابطٌ بشكلٍ أو بآخرَ حتّى عبر مساحاتٍ شاسعةٍ من الفضاء.
كتب شيلدون غولدشتاين؛ عالم الرّياضيّات والفيزياء في جامعة روتجرز: "يمكنُ للدّالّةِ الموجيّة أن تربط بين الجسيماتٍ المتباعدة لتُشكّل حقيقة واحدةً مؤكّدة".
لكي نفهمَ الفرقَ بين رؤيةِ بوم ورؤيةِ كوبنهاغن لميكانيك الكمّ، يُمكننا أن نتأمّل تجربة "الشّقّ المزدوج" الكلاسيكيّة. في هذه التّجربة تمرُّ الجُسيمات - ولتكن الإلكترونات - عبر زوجٍ من الشّقوقِ الضّيقة، وتصطدمُ في نهاية المطافِ بشاشةٍ موضوعةٍ خلفَ الشّقوقِ حيث يُسجّلُ أثرُ الجُسيماتِ لمعرفةِ طبيعةِ سلوكها.
عند إجراءِ التّجربةِ حصلَ العلماءُ على نتيجتين مختلفتين تبعاً لمراقبةِ الجسيماتِ أو عدمِ مراقبتها؛ إذ تسلكُ الإلكتروناتُ سلوكاً موجياً في حال عدم مراقبتها، وتتركُ على الشّاشةِ آثارَ سلوكٍ موجيٍّ مُعيّن يُسمّى "نمطَ التّداخل". اللافتُ في هذا النّمطِ هو أنّه يظهرُ دوماً حتى لو لم تُرسَلِ الإلكتروناتُ معاً بل واحداً إثرَ آخر، ممّا يوحي بأنّ كلّ إلكترونٍ يمرُّ عبرَ كلٍّ من الشّقّين في الوقتِ ذاته. أمّا عند مراقبةِ سلوكِ الإلكترونات ومعرفةِ أيّ من الشّقّين ستختار، فإنّ نمط التّداخلِ سيختفي وستظهرُ بدلاً منه بقعتين منفصلتين على الحاجزِ خلف كلّ شقّ.
كان على أولئك الّذين يتبنُّونَ رؤيةَ كوبنهاغن الكموميّة أن يتعايشوا مع هذه النّتيجة، ويستسلموا لفكرةِ أنّه لا يُمكنُ التّنبّؤ بمواقعِ الجُسيماتِ إلّا عند رصدها.
وبالمُقارنةِ بين الرّؤية الكلاسيكيّة لميكانيك الكمّ وميكانيك بوم، فإنّ ميكانيكَ بوم يبدو أكثرَ تحكّماً. فبالنّسبة لميكانيك بوم تتصرّفُ الإلكتروناتُ كجُسيماتٍ يمكنُ تحديدُ سُرعتها في أيّةِ لحظةٍ اعتماداً على مُعادلةِ "الموجة الموجِّهة" الّتي تعتمدُ بدورِها على الدّالّة الموجيّة. تبعاً لوجهةِ النّظر هذه، فإنّ كلّ إلكترونٍ هو كراكبِ أمواجٍ؛ يحتلُّ راكبُ الأمواجِ هذا مكاناً مُحدّداً في كلّ لحظةٍ زمنيّةٍ، لكنّ موجةَ البّحر هي الّتي تُحدّدُ موقعَ راكبِ الأمواج. وبالرُّغمِ من أنّ كُلّ إلكترونٍ يتّخذُ مساراً محدّداَ من خلال فتحةٍ واحدةٍ فقط، فإنّ الموجَةَ المُوجِّهة تمرُّ عبرَ كِلا الشّقّين، ونحصلُ في النّهاية على نتيجةٍ مطابقةٍ تماماً للنّمط الّذي نراهُ وفقاً لميكانيك الكمّ القياسيّ.
يرى بعضُ العُلماء أنّ تفسيراتِ ميكانيك بوم لتجرُبةِ الشّقّين جذّابةٌ بشكلٍ يَصعُبُ تجاهلُه. يقول غولدشتاين: "كلّ ما عليكَ القيامُ به لجعل ميكانيكِ الكمّ مفهوماً أكثرَ هو أن تقولَ لنفسك: عندما نتحدّثُ عن الجسيماتِ فإنّنا نعني حقّا الجسيمات. عندها تزولُ كلُّ المشاكل... كلّ الأشياءِ لها أماكنُ مُحدّدة. إذا أخذتَ هذه الفكرةَ على محملِ الجدّ فسيقودُك ذلك على الفورِ إلى ميكانيك بوم. إنّها صياغةٌ لميكانيكِ الكمّ أبسطُ بكثيرٍ من الصّياغةِ الّتي نجدُها في كُتبِ ميكانيك الكمّ". أمّا هوارد وايزمان؛ الفيزيائيّ في جامعةِ غريفيث في بريسبان أستراليا، فيقول: "يمنحُك ميكانيكُ بوم فكرةً واضحةً عن العالمِ دونَ الحاجةِ إلى أن تقيّدَ نفسكَ بمشاكلَ فلسفيّةٍ حول كيفيّة سيره."
* المقصود هنا هو أنّ الجسيمات تتصرّف كأمواج، وحين نقومُ برصدها فإنها تظهر كجسيمات
المصدر: هنا
الجزء الثاني: هنا