العمارة والتشييد > التصميم المعماري
ضوء النهار الديناميكي عنصر واعد في تشكيل الفراغات الداخلية:
مما لا شكّ فيه أنّ الضوء من أهم مقومات الحياة، وعليه تبنى جميع النشاطات الإنسانية، فتوفير الإنارة -سواءً كانت طبيعيةً أو صناعيةً- هي شرط أساسي في أيّ فراغ معماري.
وتتنوع أساليب المعماريين في تأمين الكميات المطلوبة من الإنارة ضمن تصاميمهم، لكنّ هناك مجموعة من المعماريين استخدموا الضوء ليضفوا به لمسة فنية تزيد من جمال الفراغات الداخلية لمبانيهم، ويستعرض هذا المقال جانباً من مساهمة الضوء في خلق فراغات عمرانية مبدعة لا يمكن أن تفوّت رؤيتها.
يعتبر ضوء الشمس عنصراً رائعاً يساعد المعماري على خلق بيئات عمرانية متميزة وفعّالة. إذ يؤكد مصمم الإنارة William M.C. Lam أنّ الاستفادة من ضوء الشمس لا يقتصر فقط على تحقيق الكفاءة في استخدام الطاقة، فقد توصل المعماريون إلى العديد من الطرق التي مكنتهم من توظيف ضوء الشمس ضمن تصاميمهم، وبدأت تُطرح العديد من التساؤلات فيما إذا كانت دراسة أنماط معمارية معتمدة على ضوء النهار ستصبح هدفاً أساسياً ضمن عملية التصميم المعماري.
إلّا أنّه يمكن القول أنّ الدراسات التحليلية للإنارة لا زالت إلى الآن تركز بشكل رئيسي على استهلاك الطاقة فقط، دون التطرق إلى مزايا الإنارة الأخرى.
ضمن بحث أجراه Marilyne Andersen و Siobhan Rockcastle في جامعة EPFL (وهي جامعة رائدة في الفيزياء والعلوم الهندسية، تقع في لوزان، سويسرا)، اهتم من خلاله الباحثان بالتنوع المكاني والزماني لضوء النهار، توصلا لمصفوفة من 10 ظلال لضوء النهار.
فمن خلال مراقبة وتتبع ضوء النهار نواجه احتمالين متناقضين لبعضهما: إما أشعة شمس مباشرة مع سماء زرقاء صافية أو انتشار ضوئي لسماء غائمة؛ كلا الحالتين تترك انطباعاً مختلفاً لدى رواد المكان.
فأشعة الشمس المباشرة تظهر كتل بارزة وظلال حادة يترك تغيّر هذه الظلال عبر ساعات النهار تأثيراً كبيراً. بالتالي تبدو البيئات التي نعيش ضمنها متنوعة نتيجة ازدواجية الظل والنور، فتؤثر السماء الزرقاء بشكل كبير على نشاطاتنا.
أما عندما تملأ الغيوم السماء، تنخفض كمية الإشعاع بشكل ملحوظ مما يفقد الكتل وضوحها بسبب النقص في الظلال الواضحة، مما يجعل الفراغ المحيط عاتماً وهادئاً بل وخاملاً، وهذه الأجواء ستجعل العقول ترتخي لأنها غير محفزة بمحيط متنوع وديناميكي
قام الباحثان بتحليل عدد كبير من نماذج العمارة المعاصرة آخذين بعين الاعتبار الاختلاف المكاني والزماني لضوء النهار. وقد أفضت هذه الدراسة في النهاية إلى تصنيف نمطي تضمن 10 أصناف تتدرج من النماذج المعتمدة على الضوء المباشر المبالغ فيه إلى الفراغات المعتمدة على الإضاءة غير المباشرة والمنتشرة. وبهذه الطريقة تم القياس على حالتين متناقضتين من الظروف الجوية: أشعة الشمس المباشرة والسماء الغائمة. وسنستعرض فيما يلي الحالات الرئيسية الثلاثة للإضاءة: التباين العالي (بين الظل والنور)، التباين المتوسط، التباين المنخفض:
الحالة الأولى- التباين العالي:
إنّ نموذج ضوء النهار المبالغ فيه والمثير يظهر في تصاميم الفراغات عالية الإضاءة مثل: ساحة Kogod في المعهد السميثيوني Smithsonian Institution والتي صممها نورمان فوستر Norman Foster ، ومكتبة سياتل المركزية المصممة من قبل OMA، ومدرسة Zollverein School المصممة من قبل SANAA.
تساهم هياكل الواجهات المتميزة في خلق ظلال كثيفة تتحرك باستمرار خلال اليوم، كما تسهم العناصر الزجاجية الكبيرة في الواجهات بالوصول إلى مستويات عالية من الإضاءة تقارب مستوى الإضاءة في الخارج. وعندما تكون فتحات الواجهة أصغر فإنّ مثل هذه الواجهة الساترة تشكل آثار مماثلة لكن مع ظلال أخف وأقل بروزاً ويعد متحف اللوفر في أبو ظبي من تصميم Ateliers Jean Nouvel مثالاُ رائعاً على الواجهات الساترة التي تستخدم مبدأ المشربية المستوحى من الطراز العربي.
الحالة الثانية- التباين المتوسط:
في الإضاءة ذات التباين المتوسط يستخدم ضوء النهار المباشر بشكل جزئي أو في أماكن مختارة ممزوجاً بضوء النهار غير المباشر. وتتجنب الفراغات المنارة بهذه الطريقة التباين الشديد أثناء مرور الوقت كما تتجنب كذلك الجو الممل.
هذا ما فعله Mies van der Rohe في تصميمه لـ Farnsworth House الذي استخدم فيه الألواح الزجاجية التي تسمح بإدخال كمية كبيرة من الإنارة، مع الحد الأدنى من العوائق كالشفرات، بحيث تبدو تغيرات الإضاءة أثناء النهار واضحة جداً ولكن دون وجود ظلال حادة.
كذلك قدم Peter Zumthor حلاً وسطياً فيما يتعلق بانتقاء الضوء المباشر في مشروعه Therme Vals
حيث يشارك الضوء القوي في صنع تباين ضوئي مميز لكنه في الوقت نفسه لا يغير من التشكيل بشكل كبير خلال النهار كما هو الحال في مكتبة سياتل.
الحالة الثالثة- التباين المنخفض:
تتضمن هذه الحالة الإضاءة المنتشرة غير المباشرة، حيث يتم بهذه الطريقة إلغاء التباين الشديد والتغيرات التي تحدث بمرور الوقت.
وتعتبر كنيسة القديس أعناطيوس لـ Steven Holl من الأمثلة البارزة على هذه الحالة، حيث يعمل الضوء على نقل الجو العام في الكنيسة إلى فراغ مقدس من خلال استخدام العديد من الأنابيب المشابهة لشكل الزجاجة من أجل تشتيت الضوء.
كما ظهر حل آخر للتعامل مع الضوء غير المباشر في المباني حيث يكون كامل السقف مكون من شبكات ملتقطة لضوء النهار في مواجهة أشعة الشمس المباشرة، مثل متحف High Museum في أتلانتا والذي صممه Renzo Piano
في الرسم البياني أعلاه عشرة أنماط تصميمية مختلفة تتدرج من التباين المكاني والتنوع الزماني الشديد، إلى التباين المكاني والتنوع الزماني المنخفض، وما ينتج عن كل منهما من ظلال وإضاءة.
تم من خلال دراسة قيمة أنماط الإضاءة التي قام بها Siobhan Rockcastle و Marilyne Andersen ، والتي استعرضناها آنفاً، تحديد التأثير الشديد لعاملي التباين والديناميكية (حركة الشمس خلال النهار) في التأكيد على عنصر الإضاءة بوصفه أحد عناصر الجودة المكانية التي تتجاوز مجرد مقاييس الطاقة.
إن هذا النهج يمكن أن يطور إلى تصنيف مفيد ليعكس جودة ضوء النهار في مشاريع التصميم اليومية.
حيث أعطت هذه الدراسة السريعة لمحة عن فكرة 10 أنماط من الإضاءة وكيف تسمح هذه الأنماط باختلاف التقييم لعمليات التصميم المتقدمة، بالإضافة لمحاكاة إضافية من خلال مجسمات مكانية مبسطة والتي تفتح باباً جديدا في عالم الإظهار المعماري لدراسة التغيرات من الزمن بشكل مفصل أكثر.
مما يجعل الحديث عن التكوين الديناميكي للضوء والظل في الفراغ أكثر أهمية من معدل القيم الضوئية وشدتها.
نرجو أن تكون هذه الدراسة قد لفتت النظر إلى أهمية الضوء في تصميم الفراغ وتأثيره على انطباع المستخدمين للفراغ.
في المرة القادمة التي تزور فيها فراغات معتمدة على ضوء النهار حاول أن تبحث عن العناصر التي خلقت هذا الفراغ بمختلف تفاعلاته الحسية، لا تكن زائرا عادياً، كن باحثاً!
المصدر: