كتاب > الكتب الأدبية والفكرية
مراجعة كتاب (هكذا تكلم زرادشت): كتابٌ للمجتمع لا للفرد
يبدأ زرادشت رحلتَه وهو يبلغُ من العمر 30 عامًا، بعد أن كان ولعشر سنوات في عزلةٍ تامّة، لا يَرى فيها سوى الطبيعةِ البِكْر، ولا يسمعُ فيها سوى حفيفِ الشجر وخريرِ الماء وأصواتِ الحيوانات، عزلةٍ تامّةٍ عن أيّ بشريّ. يستخدم نيتشه (زرادشت) راويًا لأفكاره وتأمّلاته؛ فيرى نيتشه أنّ الإنسان كائنٌ ناقص، وأنه يجب علينا أن نصلَ إلى مرحلة الإنسان المتفوّق. وفي هذا يقول: «إنني آتٍ إليكم بنبأ الإنسان المتفوّق؛ فما الإنسانُ العاديُّ إلا كائنٌ يجب أن نجعله يتفوّق، فماذا أعددتم للتفوّق عليه؟». إنّ الإنسان المتفوّق عند نيتشه، هو الإنسانُ الذي يحمل بداخله اللهب، فلا يستكينُ لحظةً واحدة عن إشعال مَن حولَه بالحماسة والفضائل العليا، وهو الذي يحمل الجنون بعقله، فلا يكونُ إنسانًا عاديًّا خانعًا، بل جسرًا يَنقُل الناس من المألوف إلى اللامألوف، ومن الطبيعيِّ إلى اللاتقليديّ. فيقول: «ما الإنسانُ إلا حبلٌ منصوبٌ بين الحيوان والإنسان المتفوّق، فهو الحبلُ المشدودُ فوق الهاوية، وإنّ عظمةَ الإنسان قائمةٌ على أنه مَعْبرٌ لا هدف، وما يُستحبّ فيه هو أنه سبيلٌ وأفقٌ وغروب».
ينتقل بنا زرادشت إلى التكلّم عن الحكومات والشعوب، فيُبيّنُ لنا أنه لا وجودَ للحكومات المثاليّة العادلة التي تعملُ بشكل صحيح خالٍ من العيوب. فالحكومة عندَ نيتشه تَرفعُ شعار أنها تمثّل الشعبَ، وأنها من الشعب وإليه تعود، لكنّها في المضمون ليست إلا مجموعةً من الأفراد، تعملُ على إشباع مصالحها وجُيوبها باسم الشعب. «الحكومة تكذب في كل تعابيرِها عن الخير والشرّ؛ فما تقوله ليس إلا كذبًا، وما تملِكُه ليس إلا نِتاجَ سرقتِها واختلاسِها». لذلك؛ فما على الشعب إلا أنْ يَهدِمَ هذه الحكوماتِ، ويبنيَ على أنقاضها دساتيرَ عادلةً، تُسيّرُ الحياةَ بكل أنماطها وتَنوُّعها، وتُنظِّمُها.
ولمْ يُغْفِلُ نيتشه مفهومَ (العزلة)؛ فالاعتزال بالنفس أو الذات عندَه؛ هو ما يَجلِبُ الطُّمأنينةَ الروحيّة، وهو ما يَجلِبُ المعرفة؛ لأنّ الخُلْطةَ المستمرّة بالناس لا تجلبُ سوى السُّمومِ للروح والعقل، والإنسانُ مهما بلغ من المعرفة فلا بدَّ من أنْ يتأثّرَ بالرِّعاعِ مِن حولِه. وعليه، فالاعتزالُ عند نيتشه هو الركيزةُ الأساسيّة للوصول إلى المراتب العليا من المعرفة، والعزلةُ تعيدُ اكتشافَ جوهرِك، وتُرَمِّمُ حجارةَ سلامِك النفسيّ، التي تهتّكتْ من سُخْفِ البشر، فيا أيها الإنسان، حطّمْ نوافذَ الجهل والسُّخف، واقفزْ منها لتنجوَ بنفسِك!
ويقول: «لمْ تَخْلُ الأرض من أماكنَ يَلجأُ إليها المنعزلُ منفردًا أو مزدوِجًا، تهبُّ فيها نسماتُ البحرِ الهادئة. لم تَزَل الحياةُ الحرّة تفتحُ لكبار النفوس أبوابَها، والحقُّ أنّ مَن يَملِكُ القليل من حُطام الدنيا؛ لا يَنالُه إلا اليسيرُ من تحكُّم المتسلّطين، فطوبى لصغار الفقراء!».
ويتساءل نيتشه على لسان زرادشت: هل (الزواج) شهوةُ حيوانٍ، أم خشيةُ منفردٍ، أم اضطرابُ مَن قام النزاعُ بينَه وبين نفسه؟ ويرى أنّ الهدف من الزواج ليس أن يرسل الإنسانُ سلالتَه إلى الأمام فحسب، بل أن يرفعَها إلى فوق؛ فلْيكن عملُ الإنسان في حقل الزواج مُنْصَبًّا على هذه الغاية. الزواجُ عند نيتشه هو اتّحادُ إرادتين لإيجاد فرد يفوق من كانا علّةَ وُجودِه؛ ولذلك هو حرمةٌ متبادَلة، ترسو على احترام هذه الإرادة.
وعالج نيتشه أيضًا فكرة (الإجرام)؛ إذْ رأى أنه لا يمكن للمجرم أن يرتكب جريمته إلا وكان دافعُه الأساسيُّ هو عظيمَ احتقارِه للبشر؛ فعندما يَرتكب جريمتَه، يكون قد أصدر حُكْمه على نفسه؛ حَكَم على نفسه بالموت؛ فأصبح حالُه كالذي صعد على قمة جبل وصاح: «عالِجوني بالموت! عالِجوني به؛ فهو المنقذ الوحيد لما بلغته من العذاب!». ويدعو الناسَ إلى تسمية مَن يرتكب جرمًا بـ(العدوّ) وليس بـ(السافل)، وأنْ يصفوه بـ(المرض) لا بـ(الدناءة). فيجبُ على الناس أن يسْعَوا إلى الحدِّ من فكرة الإجرام، وإلى الاقتصاص؛ بالمعالجة القويمة، وليس بزيادة أمراض الإجرام مرضًا آخر.
كما تطرّق نيتشه في كتابه إلى موضوع (الدين) و(الإله)، فكان أحدَ الباحثين والمشكّكين في هذا المجال، وسترى أيها القارئُ أيَّ إله يقولُ نيتشه بموته، وأيَّ إله يتّجهُ هذا الفيلسوفُ إلى اكتشافه في سريرة الإنسان.
وسأل زرادشت: «وما عمل القدّيس في هذا الغاب؟»، فأجاب القدّيس: «إنني أَنْظُمُ الأناشيدَ لأترنّم بها، فأراني حَمَدْتُ الله إذْ أُسِرُّ نجواي فيها بين الضحك والبكاء؛ لأنني بالإنشاد والبكاء والضحك والمناجاة أُسبّح اللهَ ربي. ومع هذا، فما الهديةُ التي تحملُها إلينا؟» فانحنى زرادشت مُسَلِّمًا، وقال للقدّيس: «أيَّ شيء أعطيك؟ دعني أذهبْ عنك مسرعًا كيلا آخذَ منك شيئًا». وهكذا افترقا وهما يضحكان كأنهما طفلان. وعندما انفرد زرادشت قال في نفسه: «إنه لأمرٌ جِدُّ مستغرَب؛ ألمّا يسمعْ هذا الشيخُ في غابه أنّ الإلهَ قد مات؟!».
وضع نيتشه كلَّ حياتِه، كلَّ جوهرِه وتناقضاتِه؛ في هذا الكتاب، فكان فيه صفاؤُه وتعكُّرُه، وحقدُه وسماحتُه، أَسَّسَ فيه لحياته وموته، وتكلّم عن ظاهره وباطنه، وكأنه شرّح جسده في هذا الكتاب. قراءته ليست بالأمر اليسير؛ فعليك أن تُعيدَ تجميعَ أجزاءِ نيتشه المتناثرة لكي تعيدَه إلى الحياة، وتراه يجلسُ إلى جانبك ويحدّقُ في عينيك، وعندها استعدَّ للمحاكمة والمساءلة؛ فنيتشه هو مَن سيكون القاضيَ الذي سيقرّر نجاحك أو فشلك. لذلك -أيها القارئُ- بعد الانتهاء من هذا الكتاب، أحضر عُنوانَه، وضع (اسمك) موضعَ (زرادشت)، فإذا وجدت أنه ملائمٌ، أغلق الكتابَ واخلُدْ إلى الراحة المؤقّتة، وإن لم تجده كذلك فارجع إلى الصفحة الأولى، وأَعِدْ الغوصَ في الكلمات؛ فلا بدَّ من أنّ شيئًا قد فاتك. هكذا تكلّم زرادشت، وهكذا ستتكلّم أنت.
• معلومات الكتاب:
- عنوان الكتاب: هكذا تكلم زرادشت.
- الكاتب: الفيلسوف فريدريك نيتشه.
- ترجمة: فليكس فارس.
- دار النشر: منشورات المكتبة الأهلية - بيروت.
- الطبعة الأولى: 1938.
- عدد الصفحات: 378 صفحة، من القطع الكبير.