التاريخ وعلم الآثار > تحقيقات ووقائع تاريخية
أكبَر جَرِيمَة فِي القَرنِ السَابِع عَشَر
في صباحِ يوم 9 أيار من عَام 1671م قَامَ الكولونيل توماس بلُد ومَجموعَة مِنَ المتواطِئين بالتحايُل على حارِس برجِ لندن وَسَرَقُوا الجائِزة الشهِيرَة؛ التَّاج المَلَكي البريطاني المرصَّع بالألمَاس.
قُبِضَ عَلى بلُد بسُرعَة ولكن الأمر الغَرِيب الذي حَدَث، هُوَ أنَّ المَلِك تشارلز الثاني أُعجِبَ بِجُرأةِ بلُد وخَبَاثَتِهِ، وقَامَ بمكافَئَتِهِ عِوَضَاً عَن حبسِهِ ومُعاقَبَتِهِ!
فلتلقوا مَعنَا نظرةً أَقرَب عَن تَفاصِيل حادثة أَكبَر جَرائِم القَرن السَابِع عَشَر.
الخوف من حبل المشنقة هو الأمر الذي ردع الكثير من اللصوص من التفكير حتى في سرقة التاج الملكي. لكن الكولونيل توماس بلُد – الكولونيل كان لقباً أطلقه هو على نفسه - كان لصّاً غير عادي، يشتهر بفطنته وبراعته في التمويه والتنكر، والأهم من ذلك أنه امتلك موهبةً غريبةً في التخفي والبقاء بعيداً عن حبل المشنقة.
عاش توماس بلُد متخفياً مستخدماً عدة أسماء، لأن جائزة قيمتها 1000 جنيه أُعلنت لمن يأتِ برأسه، بسبب تآمره على الملك وتورطه بعدة محاولات اغتيال وهجوم على قلعة دبلن في ايرلندا عام 1670م.
الشكل(1): رسم توضيحي للكولونيل توماس بلُد
ولكن، وبالرغم من المخاطر المتحتمة على ظهوره مرةً أخرى، إلّا أنه عاد للعب عام 1671م ليخطط لتحفة أعماله، ألا وهي سرقة تاج الملك.
خُبِئ الكنز المنشود والمكوّن من تاج الملك المرصع بالمجوهرات والأحجار الثمينة وصولجان ذهبي وكرة ذهبية، في غرفة في قبو برج لندن. وكان الحارس الموكل له أمر حماية الكنز، تالبوت إيدواردز، جندي سابق عجوز أُوكِلَت إليه مهمّة الحراسة لكي يتمكن من جني القليل من النقود عن طريق السماح للسياح برؤية المجوهرات الملكيّة.
في ربيع عام 1671م اكتملت خطة الكولونيل بلُد، حيث أنّه قرر التنكر برداء كاهن، وعيّن أحد النساء لتقوم بدور زوجته، وقام بزيارة الحارس إيدواردز لإلقاء نظرةٍ على المجوهرات كأي زائر آتٍ للبرج. وبوجودهم معاً في القبو، بلُد الذي تنكر باسم "باسرون" وزوجته والحارس إيدواردز، ادعت زوجة بارسون المرض، ممَّا اضطر الحارس لدعوتهم لشقته في الطابق العلوي لحين تحسن حالها. شَكَر بلُد الحارس لكرمه، وقام بزيارته مرةً أخرى حاملاً لزوجته هدية تعبيراً عن امتنانه.
ولكن بالحقيقة كان هدفه توطيد العلاقات بينه وبين إيدواردز، وبالفعل، تكررت زيارته لمنزل الحارس وزوجته وكسب ثقتهما، وادّعى يوماً ما أنه يريد لابنتهما العزباء لقاء ابن أخيه لظنّه أنهما مناسبان للزواج من بعضهما.
قام بزيارة منزل الحارس بحجة اللقاء محضراً معه أربعة رجال، ابنه توماس، والذي مثّل دور ابن الأخ الأعزب، وثلاثة رجالٍ آخرين هم روبيرت بيروت وريتشارد هاليويل وويليام سميث، وكانوا جميعهم مسلحين.
الشكل (2): برج لندن من نهر التايمز
بينما انتظر ويليام سميث بجانب الخيول عودة باقي العصابة مع الكنز، كان يعمل بلُد على إقناع إيدواردز بأن يأخذ الشاب والبقية في جولة للقبو لرؤية المجوهرات. وافق الحارس واتجه الجميع لغرفة المجوهرات وفتح إيدواردز الباب المقفول لهم، سرعان ما قام بلد بحشو فم إيدواردز بقطعة قماش ووضع كيساً على رأس الحارس البالغ 77 من عمره، الذي حاول عبثاً الدفاع عن نفسه، مما دفع بلُد لسحب مطرقته وضرب إدواردز على رأسه وطعنه في بطنه.
بينما انشغل بلُد وابنه بسرقة الكنز دخل عليهم شريكهم هاليويل مخبرهم بالأخبار السيئة. ابن إيدواردز هنا! الجندي وايث، ابن الحارس إيدواردز، قام بزيارةٍ غير متوقعة لمنزل والده وهو الآن يبحث عن والده في الطابق العلوي!
قام رجال العصابة بجمع المجوهرات بسرعة وسارعوا بالهروب من صالة التاج حتى وصلوا إلى الخارج، في نفس الوقت حرر إيدواردز فمه من قطعة القماش وصرَخ بأعلى صوته "خيانة! لقد سُرِقَ التّاج!"
عند سماع وايث للصوت وإدراكه للموقف قام بملاحقة العصابة مع عسكري سويدي يدعى مارتن بيكمان. بعد ملاحقةٍ طويلةٍ وإطلاق النار على أحد حراس الكنز، تم الإمساك ببلُد وباقي رجال العصابة واسترجاع المجوهرات المسروقة.
وجد بلُد نفسه مقيداً بالسلاسل من جديد بعد فشل خطته. رفض التكلم مع أي أحد في السجن طالباً الحديث مع الملك تشارلز الثاني بنفسه. الأمر الغريب الذي حصل هو أن الملك قد وافق!
ما حدث بعدها كان من أكثر الاستجوابات غرابةً في التاريخ. اعترف بلُد بجرائمِه كلها وأخبر الملك عن مغامرات حياته، حتّى أنّه اعترف أنه خطّط في أحد المرات لاغتيال الملك تشارلز عندما كان الملك يستحم في النهر.
الشكل (3): الملك تشارلز الثاني ملك إنكلترا في رداء التتويج
كانت جرائم بلُد كافيةً لجعله يستحق موت الخونة. لكن عوضاً عن ذلك، قام تشارلز بمنحه عفواً كاملاً وأعطاه أرضاً في ايرلندا تبلغ قيمتها 500 ألف سنوياً!
هذا التنازل الخارق للعادة جعل الناس تتساءل طويلاً عن السر، ادعى البعض أن الملك مبهور بمغامرات بلُد وقصصه الممتعة، لكن الأمر كان أكثر تعقيداً.
ظن البعض أن الكولونيل بلُد كان يعمل كعميل مُعيَّن مِن قِبَل دوق باكنغهام، وبالتالي هناك غايةٌ أخرى من حادثة السرقة. ويظن بعض الباحثين أن الملك تشارلز كان من المخططين للسرقة ليقوم باستخدام أموال الشعب لشراء بديل للمسروقات، التي حسب الخطة ستكون بحوزته دون علم عامة الناس.
بعد حصوله على العفو المَلكي، قَضى بلُد سنين حياته الذهبية كأشهر مُجرِمي إنكلترا، يعمل كمخبر وجاسوس للتاج.
عند وفاته عام 1680م، ونتيجة لسمعته وألاعيبه الشريرة في حياته اضطرت الحكومة لإخراج جثته من القبر للتأكد من أنه لا يتظاهر بالموت. لكنه كان قد مات بالفعل. دفن الكولونيل بلُد تحت شاهدة قبر كتب عليها "هنا يرقد الرجل الذي قام بجرأة بأكبر الجرائم التي شهدتها إنكلترا"
المصدر: