منوعات علمية > العلم الزائف
الأرض المسطحة, مزحةٌ أم ماذا؟
تخيَّل أنَّك تقفُ الآن على شاطئ البحر وتراقبُ سفينةً تُبحر بعيداً، من الطبيعي أنها ستختفي عن الأنظار بعدَ مسافةٍ معيَّنة ، ولكنَّ السببَ ليس له علاقةٌ بالمسافة، فبإمكانك ومن خلال تلّةٍ صغيرةٍ أن ترى بأنّ السفينة ما زالت في مستوى رؤيتك؛ وعلاوةً على ذلك إن كنتَ تشاهد بعنايةٍ ماذا يحدث للسَّفينة فإنَّك سترى أنَّ بدنها هو أول ما يختفي من الرؤية أمّا الصواري والأشرعة ستختفي في النهاية، وسيبدو الأمر كأنَّ تلك السفينة تختفي وراء تلَّة ما أو تنحدرُ للأسفل بشكلٍ منحنيٍ يُشبه انحناء الكرة الأرضيَّة.
لربما كان هذا المثال هو أبسط ما يُثبت أنَّ الأرضَ عبارةٌ عن كرةٍ أقربَ للبيضة وليست مستويةً كما يدَّعي أعضاءُ مجتمع الأرض المسطحة، والذين يستندون في اعتقادهم إلى أقلِّ الأمور إقناعاً، فمثلاً عندما تتجول على سطح الأرض يبدو وكأنَّك تسير على سطحٍ مستوٍ وليس كرويٍّ كما يرى علماء الجيولوجيا، والغريب أنَّهم ينظرون إلى صور الأقمار الاصطناعية التي تُثبت كرويّة الأرض أنّها عبارةٌ عن افتراءات مؤامرةٍ مفبركةٍ ومدبّرةٍ من قبل وكالة ناسا للفضاء ووكالاتٍ حكوميَّةٍ أخرى.
وتبعاً لقيادة مجتمع الأرض المسطحة هناك 200 شخص (أكثرهم أمريكيين وبريطانيين) ينضمُّون في كلِّ سنةٍ منذ عام 2009 إلى جماعة المعتقدين بكونِ الأرض مسطّحة. وربما تلك الزيادة في أعداد الأشخاص ترجعُ إلى الجهد الذي تبذُلُه هذه الجمعيّة في نشر وإطلاق نظريتهم على موقعٍ إلكترونيٍ رسميٍ خاصٍ بهم، بالإضافة إلى مجموعة من المقابلات التي يجرونها مع وكالات الأنباء والتغريدات التي يتم نشرُها على تويتر.
من هم أولئك المشكّكين بكرويّة الأرض وكيف يعملون؟
خلال جولةٍ مختصرةٍ في عالم من يعتقد بأنَّ الأرض مستوية، ستجد أنهم قد ألغوا الدليل العلمي على كون الأرض كروية، واكتفوا بمجموعةٍ من المقترحات التي تُثبت نظريتهم. تدور أحد تلك المقترحات حول فكرة أنّ الأرض عبارةٌ عن قرصٍ صلبٍ يتمركز فيه القطب الشمالي في الوسط وباقي المساحة هي القطب الجنوبي حيث تُحاط حافّة القرص بجدارٍ ثلجيٍّ طوله 50 قدم (انظر الصور التالية)
كما وتزعم الجمعية بأنَّ موظفي ناسا يحرسون الجدار لمنع الناسِ من تسلُّقه وإسقاطه، وقد فسَّروا دورة الليل والنهار بأنَّ الشمس والقمر متواجدان فوق الأرض بمسافة تبعد 32ميل(51 ٍكيلومتر) ويتحركان بدوائر يصلُ قطرها إلى 3000 ميل أي حوالي 4.828كيلو متر. ليظهر كلٌّ منهما كنقطةٍ مضيئة تلقي ضوءها على أجزاءٍ مختلفةٍ من الكوكب خلال 24 ساعة لتُتِم دورة الليل والنهار في الأرض.
كما يعتقد هؤلاء بوجود قمرٍ معاكسٍ خفيٍّ يحجبُ القمر الأساسيَّ خلال خسوفه، كما أنَّ الجاذبية الأرضية هي عبارةٌ عن وهمٍ فالأشياء لا تتسارعُ إلى الأسفل، وبدلاً عن ذلك فإنَّ قرص الأرض يتسارعُ للأعلى بمعدل 32 قدم /ث2 أي ما يُقارب 9.8م/ث2 بواسطة طاقةٍ خفيّةٍ وغامضةٍ تُسمى الطاقة المظلمة Dark Energy. ولكن هناك تعارضٌ فينما بينهم حول نظرية أينشتاين النسبيَّة التي تسمح للأرض بالتسارع للأعلى دون تجاوز الكوكب لسرعة الضوء، وبالنسبة لمن يتسائل عن ماذا يوجد تحت القرص، فهو على الأغلب ليس بأمرٍ معروفٍ، ولكن أكثر المعتقدات تصديقاً بين المؤمنين بنظريّة الأرض المسطَّحة هي أنَّ ما تحت القرص هو عبارةٌ عن مجموعةٍ من الصخور.
نظريَّة المؤامرة المتعلقة بالأرض المسطَّحة
بنى هؤلاء نظريةَ مؤامرة تخصهم للتخلُّص من المعارضين لتلك النظرية، وليلقوا عليها كافة إجاباتهم الواهنة وتقويتها من خلال نفي وإضعاف الرَّأي الآخر. ومن أبرز الأمور التي تمَّ تكذيبُها من خلال هذه الجمعية هي صور العالم التي نراها اليوم فقد اعتبروها صوراً تجاريَّةً تسويقية، بينما زعموا بأنَّ أجهزة تحديد المواقع GPS قد هُندست لتجعل طيَّاري الطائرات يعتقدون بأنهم يطيرون في خطوطٍ مستقيمةٍ حول الكرة ولكنهم يطيرون في دوائر حول القرص حسب معتقدهم الخاص والذي تجاوز الحدَّ ليقول بأنَّ ما يُحرك قوى التَّحكم في العالم لمنع إظهار الشكل الحقيقي للكرة الأرضية هو شأنٌ ماليُّ، فإنّه من الواقعي أن يُصمم العالم برنامجاً مخادعاً رخيصاً أفضل من أن يمتلك نظاماً فضائيّاً كاملا وهذا ما يفسر التمويلات الضخمة التي تحصل عليها الناسا والوكالات الأخرى من الحكومة بهدف التمويه. ولكننا نتسائل ماذا عن المركبات الفضائيَّة والصواريخ التي تُطلق إلى الفضاء؟
أفكارهم هذه ليست بمزحة فنظريتهم تتبَعُ لطريقة تفكيرٍ تُسمى "طريقة زتاتيك" Zetetic Method "، وهي طريقةٌ تُستخدم لإيجاد قيمةٍ حقيقيَّة لكميَّات غير معروفةٍ داخلَ أيِّ بحثٍ وتغييرٍ بديلٍ للطريقة العلميَّة، وقد تمّ تطوير هذه الطريقة على يد المؤمنين بنظرية الأرض المسطَّحة في القرن التاسع عشر والذي كانت تسودُ فيه الملاحظاتُ الحسيَّة. وتركِّز هذه الطريقة على التَّوفيق بين الأمور التجريبيَّة والعقلانيَّة وعلى جعل الاستنتاجات المنطقيَّة مبنيةً على بياناتٍ تجريبيةٍ كما يقول "مايكل ويلمور" نائبُ رئيس جمعية الأرض المسطّحة لمجلة أسرار الحياة الصغيرة Life's Little Mysterious . حيث يقودُ علم الفلك الزتاتيكي إلى استنتاج أنّ الأرض في الواقع مسطحة ويتبعها قمرٌ معاكسٌ؛ بينما تعتبرٌ مؤامرة ناسا وكلُّ ما يتعلَّق بها مجرد تسويغٍ لحقيقة الأرض حسب زعمهم.
وربما تجعلُ هذه التفاصيل نظريتهم سخيفةً جداً وكأنَّها مزحة، لكنَّ الكثيرين من داعمي النَّظرية يعتقدون أنَّ هنالك أكثر من نموذجٍ محتملٍ من الفلك غير موجود في الكتب النصيَّة وبكل اختصار هم لا يمزحون! ويضيفُ ويلمور أنَّ مسألة الإيمان والإخلاص هي ما يجمعُ الأعضاء ويزيد أعدادهم. ورغم ذلك إلا أن هناك أعضاء قليلون يؤمنون بأن نظرية الأرض المسطحة والجمعية بذاتها عبارةٌ عن ممارسةٍ معرفيَّةٍ سواء كان ذلك نقدٌ للطريقة العلميّة أو نوعٌ من الإيمان بالذَّات للمبتدئين، كما يُؤمن ويلمور بأنَّ هناك من يعتقد أنّ هذا أمرٌ مضحك فهو يعرف الكثير من الأعضاء الذين يعتقدون ذلك وبكلِّ واقعيةٍ يؤمن باعتقاداتهم.
ومن الجدير ذكره أنّ ويلمور يعتبر نفسه من المؤمنين الحقيقيين فهو يعتقد أن القناعات الخاصّة تكون نتيجة مجموعةٍ كبيرةٍ من المعلومات التي يلاحظها الإنسان بنفسه، ومازال ويلمور يجمع معلوماته وقناعاته الخاصة.
لكنَّ الغريبَ في الأمر أنّ ويلمور ورئيسُ الجمعيَّة والبالغُ من العمر 35 عاماً "دانيال شينون" يعتقدان بأنَّ دليل الاحتباسِ الحراريِّ هو دليلٌّ قويٌّ على الرَّغم من أنَّ المعلومات والأدلة آتيةٌ من عدو الجمعية أي "وكالة ناسا"، كما أنهم يقبلون بالكثير من المعتقدات السائدة في العلم حول هذا الموضوع الأمر الذي يرفع في أذهاننا سؤالاً مهماً،ما هذا التناقض؟
نظريةُ الأرضِ المسطَّحة هي مؤامرةٌ فعلية!
بعد أن استعرضنا فكر المؤمنين بنظريَّةِ الأرض المسطَّحة، دعونا نتعرف على مدى التَّآمر في نظريتهم من منظور علم النفس، فمنظومة اعتقاداتهم لا يُمكن أن تُفاجئ الخبراء وتجعلهم في حالة يأسٍ من شرح الأمر بوضوح.
تقول عالمةُ النَّفس "كارين دوغلاس" التي تعملُ في جامعة كينت في المملكة المتحدة والتي درست علمَ النَّفس لنظريات المؤامرة، تقولُ بأنَّ هناك تشابهٌ بين نظريَّة الأرض المسطَّحة ونظرياتِ المؤامرة الأخرى التي تمَّ دراستها. ويبدو لها بأنَّ هؤلاء الأشخاص يعتقدون عموماً بأن الأرض مستوية، لكنَّها لا ترى أيَّ شيءٍ يُظهر إن كانوا قد وضعوا هذه الفكرة لأيِّ سببٍ آخر.
وكما هو معروف أنَّ كلَّ نظريات المؤامرة تتقاسمُ قوَّة الدَّافع الأساسية وهي تقديم نظريةٍ بديلةٍ عن قضيةٍ مهمةٍ أو حدثٍ ما ومن ثم بناءُ تفسيرٍ غامضٍ لشرح سبب قيام شخصٍ بالتستر على الإصدارِ الحقيقيِّ للحدث. ومن بين النقاط المهمة والرَّئيسيَّة في الشرح للنظرية البديلة، أنَّها تُفسر الحدث ولكن في كثيرٍ من الأحيان لا تخوضُ في التفاصيل وهذا ما يجعلُ
النظرية غامضةً، وهنا تكمن قوتها الحقيقيّة. فجمعية الأرض المسطحة مثلاً تُصرُّ وتؤمن بأن الأرض مستوية وليست كروية، وتدعم نظريتها بالكثير من الدلائل التي تواظبُ على نشرها بثقةِ وإيمانٍ بصدقها.
ومن الطبيعي أنّك عندما تواجه وجهةَ نظرِ أقليَّة تمَّ وضع أساسها بشكلٍ ذكيٍ وبطريقةٍ مستنيرةٍ، وأنصارٍ لا يُحيدون عن وجهة نظرهم فإن هذا الرأي سيكون مؤثراً جداً وهو ما يُدعى بتأثير الأقلية " minority influence"
لماذا لا يُؤمن الكثيرون بأنَّ الأرض مستوية؟
وَجَدَ "إريك أوليفر" و"توم وود" وهما عالِمَي سياسة من جامعة شيكاغو، وجدا في دراسةٍ حديثةٍ أنّ نصف الأمريكيين على الأقل يؤمنون بنظرية مؤامرةٍ واحدةٍ من أحداث الحادي عشر من سبتمبر وحتى حادثة التآمر على اغتيال كينيدي. فهناك الكثير من الناس على استعدادٍ للاعتقاد بالعديد من الأفكار المباشرة وذلك ليُناقضوا السرد الثقافيَّ المُهيمن، ويعتقد أوليفر أن الاعتقاد التآمري نابعٌ من نزعة الإنسان، وهذا ما يدفعه إلى قبول القوى غير المرئية مما يعرف بالتفكير السحري""Magical Thinking
ومع ذلك فإن نظرية الأرض المسطحة لا تتناسب بشكل مريح مع هذه الصورة العامة؛ فمثلاً نظريات المؤامرة تعتمد في منهجها على الكثير من النظريات الهامشيَّة حتى التي تتعارض مع بعضها البعض.
إذا كان المعتقدين بنظرية الأرض المسطحة يتعاملونَ مع النظريات الأخرى فيجب عليهم أيضاً أن يُظهروا ميلاً نحو الكثير من التفكير السحري؛ كالاعتقادِ بالأجسامِ الغريبةِ والإيمانِ بالأشباحِ والشياطين، وكذلك الأمور غير المرئية كالغيب وما سواها. ولكن لا يبدو أنهم يفعلون هذا، ما يجعل النظرية شاذةً جداً لمعظم الأمريكيين الذين يعتقدون ويؤمنون بنظريات المؤامرة.
المراجع:
Wolchover، Natalie.2012.Are Flat-Earthers Being Serious?.26 October. Live science {accessed 1 August 2016} available form: