الفيزياء والفلك > فيزياء
التشابك الكمّي
الكمّ "Quantum" هي كلمةٌ لاتينيّةٌ تعني كميّةً أو مِقدارً، وفي الفيزياء يُشيرُ هذا المصطلحُ إلى أصغر وحدةٍ مُنفصِلةٍ مُمكِنة من أي مقدارٍ فيزيائيٍ، كالطّاقةِ أو المادّةِ. برَزَ مُصطلحُ الكمِ إلى الواجهةِ في عامِ 1900، عندما استخدمهُ الفيزيائيُ ماكس بلانك في عرضٍ تقديميٍ أجراهُ في الجمعيةِ الفيزيائيّةِ الألمانيّةِ.
آنذاك، كانَ بلانك يَسعى لاكتشافِ السّببِ الّذي يجعلُ لون الإشعاعاتَ الصادرةَ عن الأجسامِ المتوهّجةِ يتغيّر من الأحمرِ إلى البرتقالي، وأخيرًا، إلى اللون الأزرق مع ارتفاع درجة حرارتها. فوجَدَ أنهُ لو افترضنا أنَّ الإشعاعَ هو عبارةٌ عن وحداتٍ مُنفصِلة - كالمادةِ الّتي تتألفُ من وحداتٍ مُنفصِلة تُدعى الذرّات - عوضًا عن كونِهِ مُجرّد موجةٍ كهرومغناطيسيةٍ مستمرةٍ كما كان يفترض سابقًا، فإنهُ يُمكنُ تَكميمُ الإشعاعِ وقياسهُ، الأمر الّذي قد يُمكنهُ من العُثورِ على إجابةٍ لسؤالهِ. قامَ بلانك بصياغة مُعادلةٍ رياضيّة تَشتَمِلُ على رمزٍ يُمثِلُ الوَحداتِ الفَرديّة مِن الطاقة. ودعا هذه الوحَدات باسمِ الكُموم أو الكمّات.
أما ميكانيك الكمّ Quantum mechanics فهوَ الوَصفُ الرياضيُّ لحركةِ وتفاعلِ الجسيماتِ دونَ الذريةِ (كالإلكترونات والبروتونات والنيوترونات). والتشابُك الكمومي Quantum entanglement هو جانب من جوانب ميكانيك عالم الكَم العجيب الّذي يعتَقِدُ العُلماءُ بأنهُ مقلقٌ وغَيرُ مُتوقَع. فبحسَبِ الرياضياتِ الّتي تحكُم ميكانيك الكم، إذا كان لدينا جُسيمين يَقعُ أحدُهما في قارةِ آسيا والآخر في قارةِ أفريقيا، وكان كلٌ مِنهُما في حالةٍ غير مُحددة، بحيث يدورُ باتجاه عقارب الساعة (نُسميهِ غزلًا للأعلى)، وفي نفس الوقت يدور بِعكسِ عَقارِبِ السّاعة (نُسميهِ غَزلًا للأسفل). فإنكَ إذا ذَهبت إلى الجُسيم الموجود في آسيا وقُمتَ بفحصِهِ لِتعرفَ اتجاه دورانه فإنّ هذا الجُسيم سَيقطَعُ الشّكَ باليقين وسيُحدِد اتجاه دورانَهُ، فإذا حدَّدَ دورانهُ للأعلى فسيقومُ الجُسيم الموجود في أفريقيا بِحسَبِ الرياضيات وبنفس اللحظة تماما بِقطعِ الشّكِ باليقينِ أيضًا مُحدِدًا دورانهُ نَحوَ الأسفل من دونِ أيّ تدخّل أو أي تأثير.
يُمكِنك أيضًا عَكسُ القياس والبدءُ بالجُسيمِ الموجودِ في أفريقيا. سَتراهُ يَدورُ للأسفل لإن الرياضيات تؤكد بأن الجُسيمَ الموجود في آسيا سيدور للأعلى. وفي كلتا الحالتين، فإن قياس جسيمٍ ما سيؤثرُ على الجُسيم الآخر ليكونا دائمًا متعاكسين وكأنهما مرتبطان مع بعضهما البعض بشكلٍ سريّ، ويعلمُ كلٌ منهما اتجاه دوران الآخر فيقومُ بتغيير اتجاه دورانه ليصبح معاكسًا. هذا جنون صحيح؟
تقوم بعملٍ ما هُنا وسيؤثر عملك هذا على شيءٍ آخر هُناك. هذا هو التشابك الكمّي. فالتشابكُ الكمّي هو ارتباطُ جُسيمين (إلكترونين مثلًا) مع بعضهما بحيث يقومُ النِظامان (الجُسيمان) بِتطوير ارتباطٍ بينَ خصائِصهما يستمّرُ حتى بعد أن تفصلهما عن بعضهما البعض مسافاتٌ شاسعةٌ في الفضاءٍ. وبالتالي فإنّ مُراقبًاُ يقومُ بِقياسِ خصائِص أحدِ النظامين، سيتمكن من توقُع القياسِ الّذي قام به مراقبٌ آخر للنظام الثاني، عبر مسافاتٍ كبيرةٍ للغاية.
أحد الأمثلة التي تولّد جُسيمين متشابكين كميًّا هو تفاعل تفكُك جُسيمٍ ما إلى جُسيمين: فبسبب انحفاظِ كميّة الحَركة (الزخم)، يجبُ أن تكونُ منتجاتُ عملية التفككِ (الجسيمان الناتجان عن التفكك) مُتشابكين في حالةٍ يكونُ فيها زخم كل من الجسيمين مُكملًا للآخر.
فإن قسنا كمَيةَ حركةِ أحد الجسيمين، سنعلم كمية حركة الجسيم الآخر وإن قِسنا اتجاهَ دورانِ أحد الجُسيمين، فيمكننا معرفةُ اتجاهِ دورانِ الجُسيمِ الآخر من دون أن نضطرَّ إلى قطع المسافةِ للوصولِ إليه وقياسهِ بشكلٍ مُباشرٍ.
استخفّ ألبرت اينشتاين باحتمالية هذا التوقع، وسمّاهُ (التأثير الشبحيّ عن بُعد)، واعتقد بأن قوانين الكم ليست وصفًا كاملًا لما يحدث في الواقع . ولكن اروين شرودينغر- ولاحقًا- جون بيل صنّفَا التشابُكَ الكمّي على أنَّهُ ميّزةٌ أساسيّةٌ تحكمُ العالمَ ما دون الذّري الّذي تسري فيه قوانينُ ميكانيكِ الكمِّ. وبالرّغم من أنَّ التشابُك لا يسمح بالتواصُل بين الجُسيماتِ بِسُرعةٍ أكبرَ مِنَ سرعةِ الضَوء، الّذي تبلغُ سرعتهُ (300،000 كم/ثا)، إلا أنَّه يسمحُ بنقلِ نسخةٍ كموميةٍ مثاليةٍ عن الجُسيم، شَرطَ تدميرِ الجسيمِ الأصليِ. وقد استطاعت التجارب الحديثة نقل حالاتٍ كُموميّة لمسافاتٍ تَزيدُ على 100 كيلومترٍ.
ليس التشابك خاصيةً مقصورةً على فئةٍ قليلةٍ من التجارُبِ. فالحالاتُ القياسيةُ للمادة، التي نواجهها طوالَ الوقتِ في حياتنا، هي على قدرٍ كبيرٍ مِنَ التَشابُك. ففي الواقع، إنَّ التشابكَ الحاصلَ بين الأجسام وبيئتها مسؤولٌ عن ظهورِ العالمِ الكلاسيكيِ المألوفِ الذي نعيشهُ يوميًا، كنتيجةٍ لقوانينِ ميكانيكِ الكمِّ الغريبةِ. وأيضاً فإن هيئةَ التشابُك ضِمنَ المادة يُمكن أن تحتوي على الكثير من المعلوماتِ الفيزيائيةِ المثيرةِ للاهتمامِ.
كما تقترحُ دراساتٌ حدسيةٌ حديثةٌ أنَّ التشابُكَ الكمّيَ يُمكنُ أن يكونَ الخيطَ الذي يربطُ مناطقً مختلفةً من الزمكان سوياً في الجاذبيةِ الكموميةِ. وتقترحُ إيضًا أنَّ التَشابُكَ بينَ أجسامٍ مُختلفةٍ يُمكنُ أن يولّد ثقبًا دوديًا في الزمكان ليصلَ بين الجسيمينِ.
المصادر: