الفيزياء والفلك > فيزياء
رحلة اكتشاف النّترينو / الجزء الأول
اقترح وولف غانغ باولي "Wolfgang Pauli" في العام 1930 وجودَ جسيمٍ جديدٍ غامضٍ شحنته الكهربائيّة معدومة من المُفترضِ أنْ يكون خفيفاً جدّاً ويتفاعلُ مع المادّةِ بصعوبة. أَطلق عليه إنريكّو فيرمي "Enrico Fermi" اسم النِّترينو "neutrino" ويعني: المُعتدلُ الصّغير little neutral one.
رغم وجودِ جسيمِ النّترينو بغزارةٍ كبيرةٍ حولَنا، فقد استغرق العلماء حوالي 25 عاماً حتّى أثبتوا وجودَه منذ أنْ تنبّأ به باولي. ويُوصَف التّقدّم في الدّراساتِ الّتي أَجراها العلماءُ من أجلِ فهمِ هذا الجسيمِ المُخادِعِ طيلةَ الـسّتّين عاماً الّتي تلت اكتشافه بـ "التّقدّم البطيء".
تقول كيت ريلاج "Keith Rielage" الباحثةُ في النّترينو في قسم الطّاقة التّابع لمختبر لوس ألاموس الوطنيّ: "عند كلِّ منعطفٍ، يستغرقُ الأمرُ من العلماءِ أنْ يُمضوا عقداً أو اثنينِ من الزّمنِ وهم يبتكرونَ التّجارب الّتي ستمكّنهم بعدها من سبرِ الخاصّة التّالية للنّترينو. وفوقَ كلّ ذلك، ينتهي الأمرُ بنا غالباً ونحن نحكُّ رؤوسنا، لأنَّ سلوكَ النّترينو لا يتّفقُ تماماً مع توقّعاتنا منذ البداية. لهذا يُعتبرُ النّترينو جسيماً مثيراً للاهتمام."
إليكم ما نعرفُه حتّى الآن:
1. لجسيماتِ النّترينو ثلاثة أنواع أو "نكهات “flavors: النّترينو الإلكترونيّ والنّترينو الميونيّ ونترينو التّاو.
2. "يهتزُّ" النّترينو أو يتحوَّل بين الأنواعِ الثّلاثةِ خلالَ سفرهِ (تجواله) في الفضاء.
3. بما أنَّ جسيماتِ النّترينو تهتزّ فينبغي أنْ تمتلك كتلة.
لكن لا تزالُ هناكَ الكثيرُ من الأسئلةِ العالقةِ الّتي تتمحور عن جسيماتِ النّترينو، والبحثُ عن إجاباتِها يقعُ على عاتقِ العلماءِ من جميعِ بقاعِ الأرضِ ويشملُ التّجاربَ الّتي تُقام في جميع أنحاء العالم.
_لغزُ الطّاقة المفقودة_
خطرت فكرةُ وجودِ جسيمِ النِّترينو ببال باولي عندما كان يُحاولُ حلّ المُشكلةِ المُتعلّقة بانحفاظِ الطّاقة لتفاعلٍ مُعيّنٍ يُدعى: تفكّك بيتّا أو beta decay . يُعد تفكك بيتا إحدى التحولات التي تقوم بها النوى الغير مُستقرة لتصبح أكثر استقراراً، وهناك نوعانِ من تفكّكِ بيتّا، و وسنحاولُ أنْ نُسلِّط الضّوء على كلِّ منهما كما كان يُعتقدُ قبل بروزِ فكرة النّترينو:
يحدث عندما يتحوّلُ النّترون إلى بروتون وينطلقُ نتيجةَ التّحوُّل إلكترون،أمَّا الثاني فيحصلُ عندما يتحوّلُ البروتون إلى نترون وينطلقُ نتيجةَ التّحوّل بوزيترون .
وفقاً لمبدأ انحفاظِ الطّاقة يجب أن توزّع طاقةُ التفكّكِ على النّواتجِ بحيثُ يكونُ القدَرُ الأكبرُ من طّاقة التفكّكِ من نصيبِ الجسيم الأقلّ كتلةً. فإنْ كنَّا نعلم تماماً النواتجَ (وهما بروتون وإلكترون كما كان يُعتقد) سنكون قادرينَ على معرفةِ طاقة كلِّ من الإلكترون والبروتون.
لكنّ النتائجَ التّجريبيّةَ كانت مخالفةً للتّوقّعات؛ فقد وُجدَ عندَ قياسِ طاقةِ الإلكتروناتِ النّاتجة عن تفكّك بيتّا أنَّها ليست ذاتها في كلّ مرّة. بمعنى آخر؛ لا يَظهرُ الإلكترون بطاقةٍ مُحدّدة دوماً بل تظهرُ الإلكترونات بطيفٍ مُستمرٍّ من الطّاقة.
وقد افترض باولي في محاولةٍ منه لتفسير هذا الطّيفِ وجودَ جسيمٍ جديدٍ مُعتدلٍ غيرِ معروفٍ ينبغي أنْ يظهرَ مع الإلكترون في تفكّك بيتّا.
صرَّحت جينيفر راف "Jennifer Raaf" الباحثة في مجالِ النّترينو في مختبرDOE التّابع لـمُسرّع فيرمي الوطني: "إنْ كان هناك جسيمٌ جديدٌ يشملهُ تفكّك بيتّا، فستتشاركُ الجسيماتُ الثلاثة في طاقة التّفكّك، لكن ليس بالطّريقة نفسها تماماً. فنحصلُ في بعض التّفكّكات على إلكترونٍ طاقتُه عالية وفي بعضها الآخرِ قد نحصلُ على إلكترونٍ طاقتُه منخفضة".
في بدايات الخمسيناتِ من القرن العشرين اقترح الفيزيائيّان فريدريك ريانز"Frederick Reines" وزميلهِ كلود كوان "Clyde Cowan"، اللذان يعملانِ في مُختبر لوس ألاموس فكرةً للكشفِ عن هذا الجسيمِ المُعتدل البالغِ في الصّغر والّذي يتفاعلُ بشكلٍ ضعيفٍ جدّاً مع المادّة.
كانت جسيماتُ النّترينو تُعرَفُ في ذلك الوقتِ بالجسيمات الشّبح "“ghost الغامضة الموجودةِ في كلِّ مكانٍ حولَنا لكنَّ مُعظمَها ينفُذُ مباشرةً من المادّةِ حاملاً معه الطّاقة من تفكّك بيتّا، ولهذا السّبب أصبح يُعرفُ البحثُ الذي أجراه كلّاً من رينيه وكوان للكشفِ عن النّترينو بـ "مشروع الشّبح الضّاجّ Project Poltergeist" والّذي يبدو وفقَ رأيِ ريلاج منطقيّاً بما أنَّهما كانا يحاولانِ مطاردةَ "شبحٍ" بشكلٍ أساسيّ.
في الجزء الثّاني من هذه السلسلة سنبدأ بسرد رواية الإمساك بالجسيم الشّبح.
المصدر: هنا
الجزء الثاني من السلسلة هنا
الجزء الثالث من السلسلة هنا