الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية
مفهوم السلام عند إيمانويل كانط
عندما كتب كانط فلسفتَه في السياسة والاجتماع، وجّهها لتشجيع المتنوِّرين بشكل عامّ، ولإرساء فكرة الحرّيةِ وتنميتِها بشكل خاصّ؛ فبرأيه، لكلِّ إنسانٍ عقلانيٍّ حقٌّ طبيعيٌّ في الحرّية، وواجبٌ للدخول في حالة اجتماعية محكومة من قِبل عَقْد اجتماعيٍّ لمعرفة كيفيّةِ تطبيق الحرّيةِ والحفاظِ عليها.
ومن الكتب التي قدّمها كانط في مجال السياسة: كتاب (مشروعٌ للسلام الدائم)، الذي يتحدّث فيه عن مشروعِ دُستورٍ تلتزمُ به الأممُ جميعُها؛ دَرءًا للحروب، ومحاولةً للسير في خطى سلام دائم.
ويتضمّن هذا الدستور قسمين: يتألّف الأولُ من ستّة بُنود سلبيّة (محرّمة)؛ يتطلّب الأولُ والخامسُ والسادسُ منها اتخاذَ إجراءٍ باطل ومباشِر، أما الثاني والثالثُ والرابعُ فبُنودٌ مرنةٌ واسعة، شرطَ عدمِ الخروج عن قاعدة الحقّ والشرع.
ويتضمّن القسمُ الآخر ثلاثةَ بُنود إيجابيّة. الموادُّ الإيجابيّةُ الثلاثُ هذه تسمى أيضًا الموادَّ النهائيّة، تختلف عن الستِّ السلبيّةِ في أنّ السلبيّةَ تناولت كيفيةَ تصرُّف الدولة مع دولة أخرى لتحقيق سلام دائم، أما البُنودُ الإيجابيّةُ فتتناولُ الدولةَ ذاتَها.
ويرى كانط أنّ حالةَ السِّلْمِ ليست الحالةَ الفطريّةَ للإنسان؛ فالحالةُ الفطريّةُ أقربُ إلى كَوْنِها حالةَ حرب، والكفُّ عن الحرب ليس ضمانًا للسلام، ولا يتيسّرُ وقوعُ الضمانِ إلا في وضع قانونيّ.
الموادُّ الإيجابيّةُ الثلاثة: المادّةُ الأولى: يجب أن يكون دُستورُ المدينة في كلِّ دولة دُستورًا جمهوريًّا: إذ يكونُ قرارُ خوضِ الحرب بيد الشعب (وهو أمرٌ لا مَنَاصَ منه في الدُّستور الجمهوريّ)؛ بهذا سيُضطَرُّ الشعبُ إلى أن يتردّدَ في أمر الحرب، ويُطيلَ التفكيرَ قبل الإقدامِ على لعبة خطيرة كهذه.
في حين إذا كان قرارُ الحرب بيد شخص واحد، فلن يخشى في حال وقوعِها أن يتأثّرَ مباشَرةً؛ فيُقرِّرَها لأوهى الأسباب، ويدَعَ مهمّةَ تبريرِها لدبلوماسيِّيه.
المادّةُ الثانية: ينبغي أن يقومَ قانونُ الشعوب على أساس نظامٍ اتّحاديٍّ بين دول حرّة: شأنُ الشعوبِ حين تصيرُ دولًا شأنُ الأفرادِ في حالة الفطرة؛ يعتدي بعضُهم على بعض. فعلى كل شعب يريد ضمانَ سلامِه أن يطلبَ من الآخر مشاركتَه في نظام يشبه الدستور المدنيّ، يكونُ بمثابة (حِلْفِ الشعوب)، لكنّ هذا النظامَ لن يكون دولةً واحدة، أي دونَ اندماجِ الشعوب ببعضِها.
المادّةُ الثالثة: حقُّ النزيلِ الأجنبيِّ من حيثُ التشريع العالميّ؛ مقصورٌ على إكرام مثواه: الإكرام يعني أنّ من حقِّ أيِّ أجنبيٍّ ألّا يُعامَلَه البلدُ الذي يَحُلُّ فيه معامَلةَ العدوّ، ما دام مسالمًا، ولم يُلحِق أيَّ أذًى بأيِّ أحد. وحقُّ الإكرام هو حقُّ النزولِ بأرضٍ أجنبيّة، نزولًا لا يتجاوزُ الشروطَ التي تُيسّرُ (محاولةَ) عَقدِ شراكاتٍ تِجاريّةٍ مع الأهالي. وعلى هذا النحو، يمكنُ أن ترتبطَ القارّاتُ النائيةُ بصِلاتٍ ودِّيَّةٍ تنتهي بتنظيمها تنظيمًا قانونيًّا عامًّا. وبهذا، يقتربُ الجنسُ البشريُّ من التشريع العالميّ الجامع.
وليس للأجنبيّ أن يدّعيَ لنفسه حقَّ الإكرام باعتباره ضيفًا؛ فذلك يقتضي اتفاقاتٍ خاصّةً تتيح له الضيافة، بل حقُّه مقصورٌ على (حقِّ الزيارة)، وهو حقٌّ لكل إنسان في أن يجعلَ نفسَه عضوًا في مجتمع.
الموادُّ السلبيّةُ الستّة: المادّةُ الأولى: إنّ أيَّ معاهدة من معاهدات السلام لا تعدّ معاهدةً إذا انطوت نيّةُ عاقِدِيها على أمر من شأنه إثارةُ الحرب من جديد.
إذ إنّ أيَّ معاهدةٍ ليست إلا (هدنةً) مؤقتةً للسلام، ولا تأتي بسلام دائم؛ فللوصول إلى هذا السلام الدائم؛ على المعاهدة أن تَنفيَ أو تُلغيَ أيَّ سبب للحرب في المستقبل، وإلّا فهي هدنةٌ مؤقتةٌ فحسب.
المادّةُ الثانية: إنّ أيَّ دولةٍ مستقلة (صغيرةٍ أو كبيرة) لا يجوزُ أن تملِكَها دولةٌ أخرى بالميراث أو التبادُلِ أو الشراءِ أو الهِبَة.
الدولةُ ليست ممتلكاتٍ خاصّةً لأيِّ دولة أخرى؛ فهي مجموعةٌ من الناس لهم حرّيةُ التصرُّف بما هو لهم.
لكلّ شعب جذورُه وأصولُه، ولا يمكنُك ببساطة دمجُ شعب بشُعوبٍ أخرى ذاتِ جُذورٍ وأصول مختلفة؛ فلكلٍّ بيئتُه الخاصّة به.
بالإضافة إلى أنّ امتلاكَ الدول بما يسمى (مصاهرةَ العائلات)؛ إذ يتزاوجُ أبناءُ النبلاء بين الدول؛ لتقويتِهم ومدِّ نفوذهم؛ هذا الامتلاكُ ما هو إلا وهمٌ وحيلةٌ تصطنعُها الدولُ للوصول إلى السيادة والتوسُّع.
ومن هذا القبيل أيضًا: ما تَعمَدُ إليه بعضُ الدول من تأجير جُيوشِها لدولة أخرى؛ لمقاتلة عدوّ ليس عدوًّا لها بالضرورة؛ فمَن يفعلُ هذا إنما يستعملُ (البشرَ) وكأنهم (أشياءُ)، يسخّرُها كيفما يريد، وحسبَ مصالحه.
المادّةُ الثالثة: يجبُ أن تُلغى الجُيوشُ الدائمةُ إلغاءً دائمًا على مَرِّ الزمان.
أولًا، بسبب الضغطِ المادّيِّ الذي تستنفدُه هذه الجيوش، من تأمين الغذاء والعتاد لها. وثانيًا، لأنّ إحضارَ الشُّبّان لتدريبهم على قتل البشر بدايةً، وتدريبِهم على الاستعداد للقاء الموت هم أنفسِهم؛ ما هو إلا اعتبارُهم آلاتٍ لا بشرًا. إلا أنّ هذا لا يتضمّنُ مَن تَطوّعَ رغبةً منه؛ فمِن واجب الشباب وحقِّهم حمايةُ وطنِهم وأرضِهم وممتلكاتِهم حالَ الحرب.
المادّةُ الرابعة: يجبُ ألّا تُعقَدَ قروضٌ وطنيّةٌ من أجل نزاعات الدولة الخارجيّة.
بالطبع، ما من ضيرٍ في أن تستدينَ الدولةُ المال من أخرى في حال احتياجها إلى دعمِ اقتصادِها وشعبِها، أو من أجل مصلحة الاقتصاد الوطنيّ.
لكن ما يحدثُ في الواقع أنّ ما تقومُ به الدولُ هو تضخيمُ هذه الديون؛ نوعًا من الابتكار للتدخُّل في شؤون الدول، ما يعدّ مُدّخَرًا لإشعال الحروب.
فيجبُ ألّا تُستخدَمَ الديونُ ذريعةً لإشعال الحروب، أو ذريعةً للتدخُّل في شُؤون الدول.
المادّةُ الخامسة: لا يجوزُ لأيِّ دولة أن تتدخّلَ بالقوّة في نظام دولة أخرى، أو في طريقة الحكم فيها.
فالمبرِّر الذي تستخدمُه الدولةُ للتدخُّل قد يُستغَلُّ لينقلبَ عليها؛ فمثلًا، إذا تدخّلت بحُجّة مساوئ الدولة أمامَ رعاياها، وكان ثمّةَ انشقاقاتٌ في صفوفها، فهذا التدخُّلُ سيكونُ المحرِّضَ لتوحيد هذه الصفوف ضدَّ المهدِّد الأجنبيّ، فينقلبُ السحرُ على الساحر.
في حين أنّه في حال وصولِ رعايا الدولة الأخرى إلى حالة من الانشقاق، واحتياجِها إلى دعمٍ أجنبيّ، حينها فقط لا بأس من مدّ يد العون لأحد الأطراف، شرطَ عدمِ التدخُّل في شُؤون نظامها.
المادّةُ السادسة: لا يحقُّ لأيِّ دولة في حربٍ مع أخرى أن تُبِيحَ لنفسها ارتكابَ أفعالٍ عَدائيّة؛ كالاغتيال، والتسميم، وخرقِ شروط التسليم، والتحريضِ على الخيانة عند عودة السلم؛ إذ سيؤدّي مثلُ هذا إلى فِقدان الثقة بين الدولتين، ولا بدّ من الإبقاء على شيءٍ من الثقة في شعور العدوّ؛ وإلا لم يعد من الممكن أبدًا الاتفاقُ على أيِّ سلام، وانقلب القتالُ حربَ إبادةٍ وإفناء.
فالحربُ هي وسيلةٌ تعيسةٌ يَلجأ إليها المرءُ (مضطرًّا)؛ لإثبات أنه على حقّ، ونتيجتُها هي التي تقرِّرُ مَن هو على حقّ. أما أن تقومَ حربٌ (تأديبيّة)، فهو أمرٌ بعيد عن التصوُّر؛ لأن علاقةَ الدول ليست علاقةَ تابعٍ لمتبوع. وحربُ الإبادة تقضي على كل حقِّ وشرع، ولا تدعُ مكانًا للسلام الدائم.
لذلك؛ يجبُ تحريمُ مثلِ هذه الحروب، والوسائلِ التي تؤدّي إليها؛ لأن هذه الوسائلَ لا تنتهي بانتهاء الحرب، بل تُجاوِزُها إلى حالة السِّلم.
• المرجع: كانط، إيمانويل: (مشروع للسلام الدائم)، تر: الدكتور عثمان أمين، ط١، (مكتبة الأمين، القاهرة: ١٩٥٢).