كتاب > روايات ومقالات
مراجعة مسرحية (الملك أوديب): صراع بين الإنسان وآلهته
تحفةُ سوفكليس الأدبيّة "الملك أوديب" هي المسرحيّة التي اختارها أرسطو كمثلٍ أعلى يُحتَذى بهِ لجميعِ المسرحياتِ التراجيديّة التي لحِقتها، حتى أنّه ذكرها في كتابه De Poetica ما لا يقلُّ عن ثلاثِ عشرة مرة. ولم يَكُن أرسطو وحدهُ من قَدّر قيمةَ هذا العملِ الأدبي الفريدِ من نوعه، بل استخدمَ سيغموند فرويد أحداثاً دارت في المسرحيّة ليتعمّقَ في مفهومهِ حول تنافسِ الأولادِ الذكورِ مع آبائهم للحصولِ على عاطفةِ وحنانِ أمهاتهم فأطلقَ على هذه الحالةِ (عقدة أوديب). كما قامَ العديدُ من الكُتاب العالميين بالتطرّق إلى مأساةِ (أوديب) كدرايدن وفولتير وجان كوكتو الذي كتبها بطريقة سوريالية، إضافة للكُتابِ العربِ كتوفيق الحكيم وعلي أحمد باكثير.
تلعبُ المفارقةُ الدراميّةُ دوراً هاماً في "الملك أوديب" خصوصاً عند معرفة القُراء أو الجماهير في المسرحِ حقيقةَ (أوديب) منذُ البدايةِ كشخصيةٍ محتّمٌ عليها قتلُ أبيها والزواجُ من أمها، متتبعينَ ما سيحصلُ معهُ ومنتبهينَ إلى كلِّ مفارقةٍ تتخللُ أحداثَ المسرحيّة، وتُعدُّ أهمُها محاولتي تغييرِ القدرِ من قبل شخصيتين أساسيتين في هذا العمل المسرحي (أوديب) و (جوكاستا) اللذان تظهرُ ازدواجيّة معاييرهما فيما يخصُّ القدرَ المكتوب لهما، مترنحين بين الخوفِ من حدوثهِ ورفضِ قبولهِ إلى أنْ تبوء محاولاتُ هروبهما منهُ بالفشل.
يُعتبرُ (أوديب) أحدَ الشخصياتِ الأدبيةِ التي صوّرت العلاقةَ المتزعزعةَ بين نبوءاتِ الآلهةِ والحقيقة، والتي تحوّلت فيما بعد في عصرِ الرواية – القرنِ التاسعِ عشر على وجهِ الخصوص- إلى العلاقةِ المتخبّطة بين الدينِ والعلمِ. تطرحُ المسرحية هذه العلاقة بطريقةٍ فلسفيةٍ مُعقدة، فكلّما زادَ (أوديب) قرباً من الآلهةِ وقدرها، أصبحَ أقربَ وأقربَ لارتكابِ أبشعِ أنواعِ الخطايا.
كما تُعدُّ مسرحيةُ "الملكِ أوديب" أحدَ الأعمالِ الأدبيّةِ التي تُبيّنُ أنَّ الطريقَ الدينيَّ والعلميَّ يتشاركانَ النهايةَ ذاتها، وهذا ما حصلَ مع (أوديب) حينَ حاولَ التهرّبَ من قدرهِ باستخدامِ ذكاءهِ ليجدَ نفسهُ يدورُ في دائرةٍ مغلقةٍ بإحكام، يضطرُّ في النهايةِ إلى الرضوخِ لقوانينها بعلمهِ أو بدونِ علمه. وتستمرُّ المفارقاتُ الدراميّةُ في إدهاشنا، خصوصاً عند حلِّ (أوديب) للغزِ "أبو الهول Sphinx" عن الكائنِ الذي يمشي على أربعةٍ في الصباح واثنتين في الظهرِ وثلاثةٍ في المساءِ، حيث كانت إجابتهُ الذكية: الإنسانُ، غير مكترثٍ بنتائجِ ذكاءهِ المدمرة، وغير منتبهٍ إلى أنَّ الإجابةَ لم تكن أيَّ إنسانٍ عشوائي، بل (أوديب) على وجهِ التحديد، فهو الذي مشى على أربعةٍ كطفلٍ صغيرٍ مربوطِ القدمين، ومشى على اثنتين في شبابهِ رافضاً تلقي المساعدة من أحدٍ حتى الآلهة، ومشى على ثلاثة في نهايةِ حياتهِ عجوزاً متكئاً على عصا نتيجةً لقدرهِ المحتومِ والموجودِ في حروف اسمه، حيث أنّ اسم (أوديب) يعني القدمَ المتورمة.
ويستمرُّ سوفكليس في إدهاشنا بمفارقةٍ أخرى، حيث يبقى (أوديب) أعمى البصيرة وهو مبصرُ العينين رافضاً تصديقَ نبوءاتِ الآلهة إلى أن يصبحَ مبصرَ البصيرةِ وهو أعمى العينين. أما عن باقي المفارقات فسنتركها لتحليلِ كلِّ قارئٍ ليستمتعَ بهذه التحفةِ الأدبيّة أكثرَ وأكثر.
في النهايةِ نبقى مع فرضيتين نستخلصهما بعد انتهائنا من قراءةِ هذه التحفةِ الأدبيةِ، هل نعتبرُ (أوديب) أحدَ ضحايا القدرِ المكتوبِ ومن غير الممكنِ تغييره؟ أم نعتبرهُ مسؤولاً عن تصرفاتهِ وأخطائهِ التي أدت إلى نهايته الفاجعة؟
معلومات الكتاب:
اسم المترجم: انطوان عبدلله
اسم الكاتب: سوفكليس
اسم المسرحية: Oedipus The King
مترجم للانكليزية من قبل روبرت فاغلز Robert Fagles
دار النشر Penguin Classics