الفيزياء والفلك > فيزياء
رحلة البحث عن قُطبٍ مِغناطيسيٍّ مُفرَد
نعلَمُ جميعًا أن كُلَ مغناطيسٍ هو ذو قطبين، قُطب شمالي وقُطب جنوبي. فإذا قُمنا بِقطعِ مغناطيسٍ ما لِنصفين، سَنحصُل بالنتيجةِ على مغناطيسين صَغيرين، وسيكون لكلٍ منهما أيضًا قطبين، شمالي وجنوبي. ستستمر هذه العملية مهما قمنا بتقسيم المغناطيس. بعبارةٍ أُخرى لا يُمكننا الحصول على أحد القُطبين دون الآخر.
لكن ماذا لو وُجِدت أقطابٌ مِغناطيسيَة أُحاديّة؟ هل يُمكننا الحصول على أقطابٍ شماليّة أو جنوبيّة مُستقلة كما في حالة الإلكترون الّذي يُمثِل قُطبًا كهربائيًا أحاديًا سالبًا ونظيره البوزيترون الذي يحمل شحنة موجبة؟
تُعرَفُ هَذهِ المُسوخ الطَبيعيّة المُبهمَة الّتي يفتَرِضُ العُلماءُ وجودها بِإسم "أُحاديّات القُطب المِغناطيسي" وتتوقّعُ العديدُ من النظرياتِ الفيزيائيّة وُجودَها كما سنرى. يُتوقَعُ العُلماءُ أن يَكونَ أُحادي القُطب المِغناطيسيّ جُسيمًا أوليًّا. وبالرّغم من عدم رصد أي جسيماتٍ كهذه حتّى الآن، إلا أنَ مُعظمَ الفيزيائيين يُرجِحونَ وُجودَها.
بول ديراك والمستقبل
في القرن التاسع عشر، أظهَرَ العالِمُ جيمس ماكسويل أن الكهرباء والمغناطيسيّة هُما مَنظوران مُختلفان لشيءٍ واحد هوَ التآثُر الكهرَطيسيّ (الكهرومغناطيسيّ).
لكن القِوى الكهربائية والمغناطيسية تبعًا للمُعادلات الّتي صاغها ماكسويل، لم تُظهِر تناظُرًا كافياً. فالقِوى الكهربائية ذات شُحنات سالِبة وموجِبة مُستَقِلة عن بعضها البعض، لكن القوى المغناطيسية ليست كذلك. وبدون وجود أقطاب مفردة بَدت نَظريَة ماكسويل غَيرَ مُتناظِرة. طارَدَ ماكسويل أُحادياتِ القُطبِ المغناطيسيّة ليلَ نهار، وكتب الكثير عن مُشكِلة فقدانها ، لكنه لم يتوصّل لنتيجة في نهاية الأمر وتجاهلها في نسخته الأخيرة من المعادلات الأربعة.
برزَ موضوع أُحادياتِ القُطب المغناطيسيّ إلى الواجِهَةِ مُجددًا على يَدِ العالم بول ديراك في ثلاثينيات القرن المُنصَرِم، بعد أن اكتشَفَ العُلماء الإلكترونات ووصفوها بأنها جُسيمات أوليّة تمتلك شحنةً كهربائيّة أوليّة. فقام ديراك اعتمادًا على قواعد ميكانيكا الكم بِدراسَةِ سُلوكِ الإلكترون ضمنَ حَقلٍ مِغناطيسيّ لِأُحادي القُطبِ المغناطيسيّ. وبما أن الإلكترون هو ذو طبيعةٍ مثنويّة (أي أنهُ بالإضافة لكونِه جُسيم يتصرف كموجة أيضاً)، فإنه عندما يسلُك سلوكًا موجيًا بِالقُربِ مِن جُسيمٍ آخر، ينبغي أن يُكمِلَ عددًا صحيحًا مِن الدورات حول ذلك الجسيم.
هذا التوصيف يمكنه أن يفسر ألوان الضوء المنبعثة والممتصة من ذرة الهيدروجين التي تتكون من بروتون واحد والكترون واحد. بحل المعادلات وجد ديراك أن السلوك الموجي المناسب للإلكترون لا يتحقق إلا إذا كان ناتج شُحنة أحادي القُطبِ المغناطيسيّ والشُحنة الكهربائية الرئيسية للإلكترون هو عدد صحيح (عدد صحيح: 1،2،3...). هذا يعني أن أُحادي القطب الكهربائي ، يحمل شحنة أساسية، غير مرئية. وبالتالي فإن أيّ جُسيمٍ آخر يَحمِل شُحنة كهربائية مثل البروتونات، البوزيترونات، الميونات وغيرها، سيَتبَعُ سلوكَ الإلكترون في تلك الحالة.
إنَ الوصفَ السابق صحيحٌ في الحالةِ المُعاكسة، وهذا أمرٌ مثيرٌ للاهتمام فعِندَ توصيفِ سُلوكِ أحادي قُطبٍ مغناطيسيّ (إن وُجِد) بالقُربِ من الإلكترون، فإن تابع الموجة الموافق لـ أحادي القطب المغناطيسي لن يَستَقيمَ أمرُه إلا إذا كان ناتِجُ ضَربِ الشُحنتين عددًا صحيحاً.
توصّل ديراك أيضاً إلى أنَ وجودَ جُسيماتٍ أُحادية القطب، ضروري جدًا للإجابة على سؤالٍ مهم جدًا يتعلَقُ بخاصيّة المادّة. لمَاذا تحمِلُ الجُسيمات المشحونة عددًا صحيحاً من الشُحنات؟
تتألَفُ الجُسيمات المشحونة مِن عَددٍ مِن حاملات الشحنة الأساسية (الكواركات) الّتي يَحمِلُ بَعضُها ثُلثَ الشُحنة الكهربائية الرئيسية وبعضها الآخر ثلثين، لكن مجموعها يتكون دائماً من عددٍ صحيح من الشُحنات الكهربائية الأساسيّة. وإذا تمكّنا من إثبات وجود أحاديات القطب المغناطيسيّ، فإنَ الأمر ذاته ينبغي أن ينطَبِقُ عليها.
وحيد القرن المغناطيسيّ
شكّلَ اكتِشافُ ديراك حُجّةً مَعقولَة: فإذا وُجِدَ أُحادي القُطبِ المِغناطيسيّ، فإنهُ سَيشرَحُ لنا الكثيرَ مِن القَضايا، ولكِن إن لَم يَكُن مَوجوداً، فلا شيء سَيتغيّر.
ومُنذُ اكتشافِ ديراك، تَوقَعت العَديدُ من النَظريات خَواصَ أُحادي القُطبِ المِغناطيسيّ. حتّى أن نظريَاتِ التوحيدِ العُظمى تَفتَرِضُ أن أُحادي القطب سيكون ذا كُتلةٍ أكبر مِن كُتلةِ البروتون بـ 10 كوادرليون مرّة.
إنَ إنتاجَ جُسيماتٍ كَهذهِ سيَتَطلَبُ طاقَةً أكبرَ مِمَا تَستطيعُ مُسرِّعاتُ الجُسيماتِ الحاليّة إنتاجه. فوفقًا للعالمة لورا بارتيز Laura Patrizii مِن المَعهَدِ الوطنيّ لأبحاثِ الفيزياءِ النوويّة :
"إننا بحاجةٍ إلى الطاقَةُ ذاتها الّتي كانت موجودةً في مرحلةٍ مُبكِرةٍ من عُمرِ الكون من اجلِ إنتاجِ هذهِ الجُسيمات." وهيَ طاقةٌ عاليةٌ جدًا.
تُحاوِلُ كاشِفاتُ الأشِعَةِ الكونيّة حَولَ العالم رصدَ أيةِ آثارٍ لِوجودِ أُحاديات القطب المغناطيسية الّتي يُفتَرَضُ أن تَكونَ موجودةً حَتى يومنا هذا.
لِحُسنِ الحَظ فإن نظرياتِ التَوحيدِ الفيزيائية وعُلمائها ليسوا الوَحيدينَ الّذين تنبأوا بوجودِ أحادياتِ القُطب. فقد توَقّع عُلماءٌ آخرون وُجودَ جُسيماتٍ أحاديةِ القُطب المغناطيسي بكتلة أقل، يُمكِنُ الحصولُ عليها في مُصادِم الهادرونات الكبير مثلا. وطالما أن نموذج ديراك لم يضع أي تقديرات أو قيود تخُصُ كُتلةَ هذهِ الجُسيمات فَإنَ على الفيزيائيين أن يكونوا مُستعدين لاكتشافِ جُسيماتٍ قد لا تكون بالضرورةِ مُطابقةً لما تتوقعهُ أيٌّ من النظرياتِ الموجودة الان.
ونختم بقول البروفيسورة ويندي تايلور من جامعة يورك، كندا:
"شخصياً، لديّ العَديد مِن الأسباب الّتي تدفعُني للاعتقاد بِوجُود أُحادياتِ القُطبِ المِغناطيسيّة فِي مَكانِ ما من الكون، لِذلك يَجِبُ عَلينا ألاّ نَكُفَ عَنِ البَحثِ أبداً. إن تِلكَ الجُسيمات هي وبِلا أدنى شَك المُفضلة لديّ. وإن وُفِقنا في اكتشافها، فإن ذلك لن يقِلّ أهميَةً عن اكتِشافِ بوزون هيغز."
*تعتقِدُ نظرياتُ التوحيد الأعظم بأنهُ في مرحلةٍ ما، وعند مستوى عالٍ جدًا من الطاقة، يُمكن للقوى الأساسية الأربعة ( الكهراطيسيّة، القوى النووية الضعيفة، القوى النووية الشديدة، الجاذبيّة) أن تتوحَد جميعًا مُشكِلةً قوةً واحدة عُظمى.
المصدر: هنا