الفيزياء والفلك > فيزياء
بلّورات الزّمن والحركة السّرْمديّة
مُنْذُ منتصفِ القرن التّاسعِ عشر وعبارةُ "آلةِ الحركة السّرْمديّة Perpetual-Motion Machine " تُضحِكُ العلماءَ حالما تتردّد على مسامعهم. لكن إنْ قرأت يوماً ما عبارةً تحتوي كلتي الجملتين: "آلةُ الحركة السّرْمديّة" ، و" فرانك ويلزك Frank Wilczek" الحائزِ على جائزة نوبل في الفيزياء في العام 2012"؛ ستُدرك حتماً أنَّ الأمورَ قد أصبحت أكثرَ جدّيّة؛ وقد تتساءل: يا تُرى! ما الرّابط العجيبُ بين الجملتين؟
إليك الخيوطَ الأولى، إنْ ثَبُتتْ صحّةُ أفكار ِويلزِك الأخيرة الّتي تتحدّثُ عن التّناظرِ وطبيعة الزّمن، فقد تُوجدُ آلةُ الحركةِ السّرْمديّة غير الزّائفة والّتي لا يُمكنُ أنْ تُنتزَعَ طاقُتها على الإطلاق.
يُشتهَرُ فرانك ويلزك، الأستاذُ الجامعيُّ في معهد ماستشوستس للتّقانة "Massachusetts Institute of Technology"، بعمله الرّائد في تطويرِ نظريةِ التّحريكِ اللوني الكمومي؛ الّتي تشرحُ كيفيّة التصاقِ الجسيماتِ المتماثلةِ بالشّحنة (البروتونات) ضمن نواة الذّرّة مع بعضها البعض. يقولُ ويلزِك إنّ فكرتَه الأخيرةَ خطرت بباله بينما كان يُدرّسُ محاضراتٍ عن نظرية الزّمرِ* منذُ سنتين.
يفترضُ ويلزِك أنّ المادةَ قد تستطيعُ تشكيلَ ما يُعرفُ بـ "بلّورة الزّمن Time Crystal"، الّتي قد تتكرّرُ بنيتُها دوريّاً كما تتكرّرُ بنيةُ البلّوراتِ العاديّة، ولكنْ التّكرار مع الزّمن بدلاً من الفضاء (الفراغ). فما الفرقُ بين بلّورةِ الزّمن والبلّورةِ الفراغية؟ وكيف تُكسَرُ التّناظرات في الطّبيعة
تتألّفُ الموادّ؛ كالسّوائل والغازات في حالة التّوازن، من جسيماتٍ تتوزّعُ بانتظامٍ ضمن الحيّزِ الموجودة فيه. ونتيجةً لذلك، نراها تُبدي تناظُراً فراغيّاً تامّاً؛ أي أنّ المادّةَ ستبدو متماثلةً في جميعِ الاتّجاهات وعندَ أيّةِ نُقطة. لكنْ عندَ الطّاقات الصُّغرى، لا تستطيعُ معظمُ الموادِّ الاحتفاظَ بهذا التّناظر فتبدأ عندَها بالتّبلور.
رغمَ امتلاكِ البلّورة المتشكّلة نمطاً هندسيّاً منتظماً، إلّا أنَّها تفتقرُ إلى التّناظر الفراغيّ الكامل؛ فلا تبدو متماثلةً بكلّ الاتّجاهات. وهذا ما يسمّيهِ الفيزيائيون انكساراً تِلْقائيّاً في التّناظر.
بدأ ويلزِك بالتّساؤلِ عن إمكانيّةِ توسيع فكرةِ البلّورةِ العاديّةِ ثلاثيّة الأبعاد عبرَ إضافةِ بعدٍ رابع؛ الزّمن، لتُصبح في أربعةِ أبعاد. عندها قد تكسرُ بلّورةُ الزّمن تِلْقائيّاً فيما يُعرفُ بـ "أُمِ التناظرات". تناظُرُ الزّمنِ يعني حفظَ قوانينِ الفيزياءِ دونَ تغييرٍ بصرفِ النّظر عن الزّمن.
قد تتغيّرُ بلّورةُ الزّمن مع الوقتِ، لكنّها تعودُ إلى الشّكلِ الّذي كانت عليهِ في البِدء، كما تعودُ عقاربُ السّاعةِ إلى موضعها الأوّليّ بشكلٍ دوريّ، لكنّها تختلفُ عن السّاعةِ العاديّة أو أيّةِ عمليّةٍ دوريّةٍ أُخرى بأنّها قد تكونُ بحالةِ الطّاقةِ الأدنى المُمكنة.
عندَ إلقاءِ نظرةٍ خاطفةٍ أوّليّةٍ سنكونُ أمام تناقض، فوفقاً لتعريفِ بلّورةِ الزّمن، يجبُ أنْ تتغيّر البلّورةُ مع الزّمن حتى تكسرَ تناظرَها الزّمنيّ، ولكن أيّةَ منظومةٍ موجودةٍ عند أقلِّ طاقةٍ ممكنةٍ لن تكونَ قادرةً على الحركة، فإذا تمكّنت من ذلكَ فإنّ المنظومةَ لمْ تبلُغْ بعدُ طاقةً صُغرى فعليّة؛ أي لمْ تُصبح في حالةِ انعدامِ الحركة، وستستمرُّ عمليّة انتزاعِ الطّاقةِ الإضافيّة منها للوصول إلى تلكَ الحالة.
حالما تبدأ بلّورةُ الزّمنِ بالحركة فتستمرًّ في ذلك إلى الأبد** دونَ الحاجةِ إلى أيّةِ قوّةٍ خارجيّةٍ تجعلُها تحافظُ على استمراريّةِ حركتها. ولحسن الحظّ فإنّ هذا النّمطَ من "آلةِ الحركةِ السّرْمديّة" لن يخرقَ أيّ قانونٍ معروفٍ في الفيزياء؛ لأنّه من غير الممكنِ أنْ تُستخرجَ أيّةُ طاقةٍ من المنظومةِ دون أنْ نكونَ قد أضفنا طاقةً إليها في بادئ الأمر. والأجملُ أنّه بالإمكان أنْ تُرتّب (تُنظَّم) منظوماتٌ كهذهِ بحيثُ تحملُ المعلوماتِ الّتي قد تدومُ حتّى بعد أنْ ينتهي كلّ شيءٍ من حولها.
علّق الفيزيائيّ النّظري في جامعة أريزونا موليك باريخ "Maulik Parikh" قائلاً: "لقد وجدَ فرانك استثناءاتٍ دقيقةٍ تربطُ بين الحركةِ وحالةِ المادّةِ عند الطّاقة الصّغرى، وإنّني مُتفاجئٌ جدّاً من ذلك".
ويتّفقُ معه عالمُ الكونِ في معهد كاليفورنيا للتّقانة شون كارول " Sean Carroll" قائلاً: "من المُسلّي أنْ تجدَ منظومةً تتميّزُ بقدرتِها على الحركةِ في حالتها الأساسيّةِ ولا يخرقُ ذلك أيًّ من المعتقداتِ العزيزةِ على قلوبنا في الفيزياء. وأنا أعتقدُ بإمكانيّةِ إنشاءِ منظومةٍ كهذه في العالِم الحقيقيّ".
ولكنّ كارول يُحذّر من أنّ بلّوراتِ الزّمن قد لا تبقى موجودةً لوقتٍ غيرِ محدّد (إلى ما لانهاية). فرغمَ امتلاكِ البلّورةِ لأصغرِ طاقةٍ ممكنةٍ إلّا أنَّها لا تمتلِكُ أعلى إنتروبيّة ممكنةٍ (عدم الانتظام) فالبلّورةُ الّتي تنفجرُ إلى جسيماتِها المنفردةِ وتنتشرُ عبر الفراغِ تمتلكُ إنتروبيّةً أعلى، لأنّ الكونَ يتطوّرُ باتّجاه الإنتروبيّة الأعلى.
قد تُسلّطُ فكرةُ بلّوراتِ الزّمنِ الضّوءَ على كيفيّةِ وصفِ الظّواهرِ الطّبيعيّةِ غيرِ المتناظرةِ مع الزّمن بدلالةِ نظريّاتِ التّناظر. من المُمكنِ أنْ تُطبّقَ حتّى في وصف نشأةِ الكونِ وتطوّره. وقد يفكّرُ البعضُ ببلّورةِ الزّمن على أنّها شكلٌ جديدٌ من أشكالِ المادّة؛ كانت موجودةٌ مُسبقاً، وربّما تكونُ قد نشأت عندما كان الكون يُبرَّد في بدايّة تشكُّله، ممّا كسر التّناظراتِ فيه عند تلك المرحلة، وقد يساعدنا هذا الشّكلُ الجديدُ من المادّةِ في إيجادِ الخطأ في فَهمنا للعديدِ من الظّواهرِ؛ كالمرحلةِ الحاليّةِ من التّوسّعِ الكونيّ المُتسارع***.
في النّهاية يقولُ فرانك: "إنّها الفترةُ الأولى من حياة النّظريّة. وبلّوراتُ الزّمنِ بالنّسبةِ للفيزيائيّين بمثابةِ اكتشافِ قارّةٍ جديدةٍ، ووحده الزّمنُ كفيلٌ بمعرفةِ فيما إذا كانت هذه القارّة عالماً جديداً غيرَ عالمنا أو القارّةِ القطبيّةِ الجنوبيّة".
*تستخدمُ نظريّةُ الزّمرِ في الرّياضيات المصفوفاتِ في وصفِ التّناظرات المُتأصّلة في عائلاتِ الجسيماتِ الأوليّةِ وفي وصف بنيةِ البلّوراتِ وتصنيفها ضمنَ مجموعاتٍ محدّدة.
**بيّن ويلزِك وشابير أنّ المادّة قد تستمرُّ في الحركةِ حتّى مع امتلاكها طاقة كليّةً معدومة. وقد تمكّنا من ذلك رياضياتيّاً بإعادةِ صياغةِ تعريفِ الطّاقة الحركيّة المألوف لدينا (الطّاقة الحركيّة = جداء نصف الكتلة بمربّع السّرعة) بشكلٍ آخرَ مُختلفٍ عن سابقه ولكنّه صالح، حيثُ تعتمدُ الطّاقة على السّرعةِ بطريقةٍ أُخرى (مثلاً، إضافةُ حدٍّ إضافيٍّ كالسّرعةِ المرفوعة للقوّةِ الرّابعة وتغيير إشارة الطاقة الحركية العادية.
*** اقتربت التّكنولوجيا الحاليّة من تصنيعِ بلّورة الزّمن. فوفقاً لأقوال ويلزِك؛ يبقى التّيارُ المارّ في سلكٍ عاديٍّ من مادّةٍ فائقةِ النّاقليّةِ ثابتاً (تُمرّرُ المادّة فائقةُ النّقل تيّاراً مستمرّاً دونَ مقاومةٍ عند درجاتِ الحرارة المنخفضة). وإن لم يكن هناك شيءٌ ما قد يتغيّر مع الزّمن، لا يوصف نصف الناقل بأنّه بلورة فعلية.
لكنْ، إنْ تمكّن المهندسون من صناعةِ ناقلٍ فائقٍ مُتكتّل بدلاً من أن تتوزّع الجسيماتُ المشحونةُ ضمنه بشكلٍ منتظمٍ؛ فقد يُؤدّي مرورُ التّيارِ إلى تحرّك قطعِ النّاقل الفائق؛ عندها سيتغيّر التّيار المحافظُ مع الزمن.
المصدر: هنا