كتاب > روايات ومقالات
مراجعة رواية (مدام بوفاري): حين تودي بنا الرغبة إلى الهاوية
مدام بوفاري، امرأةٌ احتدمَ في قلبها توقٌ عارمٌ إلى شهواتٍ مُترفة، أسلمت روحَها للهوى، فذبلت وفنيِت قبل أوانها. شاء القدر لابنة القسّيس "إيمّا" أن ترتبط برجلٍ تجتمع فيه جميع نقائض صفاتها، فبينما نجد إيمّا حالمةً، شغوفةً وطموحة، نلقى زوجها بليداً، ساذجاً، بسيط التفكير ومحدود الموارد. وإذ تجد إيمّا في الزواج تطويقاً لرغباتها، فإنها تتمرد، باحثةً عن بذخ العيش والمشاعر في عطورٍ ثمينة و مناديل مزيّنة ورقصاتٍ لا يتلاشى بهاؤها.
تصوّر الرواية تدهورَ إيمّا الأخلاقي تدريجياً. ففي البداية، تظهرُ كفتاةٍ طائشةٍ لم تنضج بعد، إلى أن تبدأ أولى علاقاتها الغرامية إذ كانت تَستمِدّ من خيانتها لزوجها وإهمالها لطفلتها الصغيرة لذّةً خاصة، ناسجةً حول نفسها شباكاً من الأكاذيب.
ينتهي الفصل الأول من الرواية حين تلقي إيمّا بباقة ورد زفافها في النار، وترمز هذه الخاتمة لما سيشهده القرّاء من استنزافٍ لروحها عبر دفعها لنفسها نحو الهلاك.
تحاول إيمّا جاهدةً التمسك بخيوطٍ واهنة لمجتمعٍ مخمليّ تؤمن بحقّ انتمائها إليه. فتارةً تبتاع شتى الكتب في الأدبِ والفكر والفلسفة، وما إن تقلب صفحاتها حتى يصيبها الملل والضجر، وتارةً تسرفُ في ابتياع كلّ ما هو نفيسٌ وثمين لنفسها و لبيتها دون أن تقيم أي وزنٍ لحقيقة وضع زوجها الماليّ.
من ناحيةٍ أخرى، كثيراً ما تخلط إيمّا في تخيّلاتها عن نفسها قصاصاتٍ من حكاياتٍ رومانسيّة، مما يشير إلى افتقارها للنضج العاطفي والنفسي، فيجعلها ذلك منفصلةً عن الواقع في تصرفاتها. حتى في لحظات صحوات إيمّا الإيمانيّة، فهي تغالي في إبراز مشاعرها بشكلٍ دراميّ عاكسٍ لنرجسيّتها وولعها بالبذخ، فتنصرف لإنفاق المزيد على سبحاتٍ ولوحاتٍ و صلبان دون رغبةٍ صادقةٍ في التوبة عن آثامها. يتراءى لنا من خلال ذلك أن جميع تصرفات بطلتنا تنصبُّ في إطار إرضاء اعتدادها بنفسها، وأن تهافتها للوقوع في الحب ينبع من إعجابها به كفكرةٍ مجرّدة وليس كواقعٍ مُعاش.
من المثير للاهتمام في شخصيّة إيمّا قلبها للمعايير الجِندرية في علاقاتها مع عشيقيها الاثنين. ففي كلتا الحالتين، تقوم بإغداق الهدايا الثمينة عليهما بدلاً من تلقّيها، على الرغم من أنها لاتتمتع بأيّ نوعٍ من الاستقلال الماديّ، الأمر الذي يدفع بها في نهاية الأمر إلى حافّة الهاوية. يتلاءم مع ذلك قيامها بارتداء سراويل الرّجال خلال علاقتها مع عشيقها الثاني، وإبداؤها لنزعةٍ استبداديةٍ استحواذيّة تتطوّر شيئاً فشيئاً خلال سير أحداث الرواية.
لا يقصر (فلوبير) تركيزه في الرواية على تحوّل شخصيّة إيمّا فحسب، بل يمتلك الراوي نظرةً ثاقبة في تسليط الضوء على مظاهر التفاوت الطبقي والنفاق الاجتماعي. يبرز هذا التفاوت أيضاً كاستعارةٍ للتباين بين أحلام إيمّا بتجاوز بيئتها وواقعها الذي يقيّدها في مكانها. كثيراً ما يلقى القرّاء أنفسهم وسط جوٍّ كرنفاليّ، فيقابلون فيه شتى أنواع الناس، من رجالٍ عابثين، وفتياتٍ متزيّنات، وأطفالٍ مبتهجين، كلٌّ منهمكٌ جلّ الانهماك في مسائل تبدو تافهةً أمام ما يدور في حياة إيمّا. يفتتح (فلوبير) معظم فصول روايته بهذا الأسلوب، فهو يُلقي بنا وسط هذه الحشود اللّاهية في أجواءٍ شبه هزليّة، ومن ثمَّ يعود بنا للقاء إيمّا مرّة أخرى، وكأن تلك طريقته في التأكيد على استمرارية الحياة، فعلى الرغم من كل ما نزل بإيمّا من مصائب، فإن كلّ شيءٍ حولها يستمرّ في مجراه دون مبالاةٍ لحالها.
ليس من الغريب أنَّ عملاً مهمّاً كمدام بوفاري قد ترك بصمةً واضحةً في عالم الأدب والفن، إذ تمّ تمثيله في عددٍ كبيرٍ من الأفلام السنيمائية صدر أولها عام 1932، بالإضافة إلى عدّة سلاسل تلفزيونية قصيرة وعملٍ في الأوبرا صدر عام 1951، وغيرها من أعمالٍ تجلت فيها قدرة الرواية على الاستمرار في التأثير حتى يومنا هذا.
معلومات الكتاب:
عنوان الرواية: مدام بوفاري
اسم الكاتب: غوستاف فلوبير
ترجمة: محمد مندور- دار شرقيات للنشر والتوزيع، القاهرة-مصر1993
عدد الصفحات: 309