الفيزياء والفلك > فيزياء
رحلة اكتشاف النّترينو / الجزء الثّالث
الألغاز الكامنةُ وراءَ النّموذجِ المعياريّ
يُعدّ النّموذجُ المعياريُّ الإطارَ النّظريّ الّذي يَصفُ الجسيماتِ الأوليّة والتّفاعلاتُ القائمة بينها، لكنَّه لا يتضمّنُ الآليّة الّتي تجعلُ جسيماتِ النِّترينو ذات كتلةٍ، وقد أدّى اكتشافُ اهتزازِ جسيمِ النّترينو لشرخٍ خطيرٍ في الصّورةِ بالغةِ الدّقّة الّتي تصفُ العالمَ دونَ الذّرّيّ؛ والّتي وُضعت استناداً إلى النّموذج المعياريّ.
لذا فمن المهمّ أنْ نحللَ هذه الصّورة مُجدّداً، ونحدّد أجزاءها الّتي تحتاجُ إلى اختبارٍ تجريبيٍّ وأجزاءها الّتي لا تزالُ بحاجةٍ إلى معلوماتٍ إضافيّةٍ تملؤها.
بعد مرور ستّينَ عاماً على دراسةِ جسيمات النِّترينو، لا تزالُ العديدُ من الألغازِ المتعلّقة بتلكَ الجسيماتِ الغريبةِ تحتاجُ إلى حل، وقد تَفتحُ حلولُها أمامنا نوافذَ على الفيزياءِ القابعةِ وراء النّموذج المعياريّ.
_اللغز الأول: هل النّترينو هو الجسيمُ المضادُّ لنفسه؟
يُعدّ جسيمُ النّترينو فريداً من نوعه بشكلٍ يؤهِّلُهُ ليكونَ الجسيمَ المُضادّ لنفسهِ، لكنْ كيف يمكنُ ذلك؟
نعلمُ الآنَ جيداً أنَّ إحدى الأمورِ الّتي نُميّز بها المادّة عن المادّةِ المُضادّة هي الشّحنةُ الكهربائيّة؛ فلكلِّ جسيمٍ مشحونٍ جسيمٌ مضادُّ يماثلهُ بالكتلةِ والسبين ويعاكسهُ بالشّحنةِ والعزمِ المغناطيسيّ. لكنْ فيما يتعلّق بالنّترينو "عديمِ الشّحنة" يتبادر إلى ذهننا السّؤال المنطقيّ التّالي: ما هو الفرقُ بين النّترينو عديمِ الشّحنةِ الكهربائيّة ومرافقهُ مضادّ النّترينو؟
إنْ لم يكُن النّترينو الجسيمَ المُضادّ لنفسهِ، عندها ينبغي أنْ يكون هناك شيءٌ آخرُ يميّزُ المادّة المضادّة عن المادّةِ العاديّةِ غيرِ الشّحنة الكهربائيّة. علّق أوريبي قائلاً: ’’ في الوقت الحاليّ لا نعلمُ تماماً ما الّذي يُميّزُ المادّة عن المادّةِ المُضادّةِ غير الشّحنة، وقد يتضّحُ فيما بعد أنْ يكون ما نُطلقُ عليه التّناظر الجديد "new symmetry" إحدى الأمورِ الّتي ستساعدنا في ذلك.‘‘
يُحاول العلماءُ البحثَ عن الإجاباتِ القاطعةِ بإجراءِ تجاربَ يبحثون فيها عن نوعٍ محدّدٍ من التّحوّلاتِ النّوويّة يُدعى تفكك بيتا المُضاعف الخالي من النّترونات"neutrinoless double beta decay"؛ الّذي يتفكّكُ فيه نترونانِ إلى بروتونينِ في الوقتِ نفسهِ ليَنتُجَ عنه بشكلٍ نموذجيٍّ إلكترونان وضديدي نترينو، فإن كان النّترينو هو الجسيمُ المضادُّ لنفسهِ فإنّ ضديدي النّترينو النّاتجين سيفنيانِ بعضهما وسينتجُ عن التّفكك إلكترونانِ فقط.
ستبحثُ العديدُ من التّجارب المُستقبليّةِ عن تفكّك بيتّا المُضاعف الخالي من النّترونات ومنها: تجربة "SNO+" في كندا، وتجربة "CUORE" في المُختبرِ الوطنيِّ التّابع لـ غران ساسو في إيطاليا.
_اللغز الثّاني: ما هو التّسلسلُ الهرميُّ لكتلِ حالات النّترينو؟
نعلم أنَّ جسيماتِ النّترينو تمتلكُ كتلةً، ونعلمُ أيضاً أنَّ كتلَ الحالاتِ الثّلاث لها لا تختلفُ عن بعضها إلا بمقدارٍ صغيرٍ جدّاً. لكن ما لا نعلمهُ ما هيَ الحالةُ الأكبرُ كتلةً وما هي الحالةُ الأصغرُ كتلة.
وبهدفِ الإجابةِ عن هذا السّؤالِ يُحاولُ العلماءُ إجراءَ تجاربَ هدفها الأساسيُّ دراسةَ اهتزازِ جسيماتِ النّترينو المسافرةِ لمسافاتٍ طويلة. تُنتجُ في مثل هذه التّجاربِ حزمةٌ من جسيماتِ النّترينو في مُسرّعٍ للجسيمات، لتُرسَلَ بعدَها حول الأرض باتّجاه كواشفَ تُوضعُ على مسافاتٍ كبيرةٍ. تشمل هذه التّجارب التّجربة اليابانيّة "T2K"، وتجربةُ مُختبرِ فيرمي "NovA" وتجربةُ الكشفِ عن النّترينو في أعماقِ الأرض.
_اللغز الثّالث: ما هي الكتلةُ العُظمى للنّترينو؟
في محاولةٍ من العلماءِ لقياسِ الكتلةِ العُظمى لجسيمات النّترينو، عادوا مجدّداً إلى التّفاعل الّذي تمكنّوا عن طريقهِ من التّنبّؤ بوجودها لأوّل مرّة؛ وهو تفكّك بيتا. وتُعدّ تجربة "كاترين KATRIN" التي تُجرى في ألمانيا إحدى التّجاربِ الّتي تهدفُ لقياسِ كتلة النّترينو بشكلٍ مباشر. يُدرسُ التريتيوم (أحدُ نظائرِ الهيدروجين) في هذه التجربة؛ والّذي يقومُ بتفكّك بيتّا.
_اللغز الرّابع: هل هنالك أكثرُ من ثلاثةِ أنواعٍ لجسيماتِ النّترينو؟
افترض العلماءُ وجودَ نوعٍ آخرَ من جسيماتِ النّترينو يتفاعلُ بشكلٍ أضعفَ من الأنواعِ الأخرى أُطلقَ عليه اسم: النّترينو العقيم ""sterile neutrino.
ولتقفّي أثرَ جسيماتِ النّترينو العقيمة ينبغي أنْ يدرسَ العلماءُ جسيماتِ النّترينو المسافرةِ لمسافاتٍ قصيرة.
سيستخدمُ العلماءُ في مختبرِ فيرمي ثلاثةَ كواشفَ للبحثِ عن جسيماتِ النّترينو العقيمة ضمن برنامجِ "short baseline neutrino program" والكواشفُ هي : كاشفُ النّترينو على المدى القصير "Short Baseline Neutrino Detector"، كاشفا ميكروبون "MicroBooNE" وإيكاروس "ICARUS" (إيكاروس هو كاشفٌ لجسيمِ النّترينو تمّ تشغيلُه مؤخّراً في غران ساسو) وسيستضيف غران ساسو أيضاً التّجربةَ القادمةَ الّتي تُعرف بـ "SOX" والّتي لها نفس الهدف؛ البحثُ عن جسيماتِ النّترينو العقيمة.
_اللغز الخامس: هل تخرقُ جسيماتُ النّترينو ما يُعرف بـ "التّناظرِ النّاتج عن تكافؤ الشّحنة Charge Parity (CP) Symmetry"؟
للإجابةِ عن هذا السّؤال سنتحدّث قليلاً عما يُعرفُ بـ خرق تكافؤ الشّحنة ( يُرمز لـتكافؤ الشّحنة اختصاراً (CP.
لو تولّدت في بداياتِ نشأة الكون (الانفجار العظيم) كميّاتٌ مُتساويةٌ من المادّةِ والمادّةِ المُضادّة لكانتا قد أفنت بعضَها البعض كليّاً (وهذا ما يُدعى التّناظرَ النّاتج عن تكافؤ الشحنة). لكنَّنا نستدلّ من مقدارِ المادّةِ الموجودةِ في الكون أنَّ كميّة المادّة كانت أكبرُ من كميّة المادّة المُضادّة (خرقُ تكافؤ الشّحنة). والسّؤال الّذي يطرحُ نفسَه: ما هو الأمرُ الّذي جعلَ كميّة المادّة أكبرَ من كميّة المادّة المُضادّة؟
إحدى الإجاباتِ يُتَوقّع أنْ يُقدّمها النّترينو؛ إذا ثبُتَت صحّة الفرضيّةِ القائلةِ بأنَّ جسيماتِ النّترينو تَخرقُ التّناظرَ النّاتجَ عن تكافؤ الشّحنة.
تُعلّق ريلاج قائلةً: "إنَّه لأمرٌ مشوّقٌ أنْ لا تكونَ في متناولنا جميعُ الإجاباتِ عن الأسئلةِ الّتي تدورُ حول جسيم النّترينو. فرُغمَ الصّعوبةِ في الحصولِ على إجاباتٍ للمشاكلِ العالقةِ، إلّا أنّني أجدُ ذلك ممتعاً جدّاً، وأعتقدُ أنّنا بحاجةٍ إلى التّفكيرِ خارجَ الحدود المرسومةِ؛ أي بدونِ قيودٍ أثناء بحثنا عن الإجابات. "
المصدر: هنا
الجزء الأول من السلسلة هنا
الجزء الثاني من السلسلة هنا