الفيزياء والفلك > فيزياء
ماذا سنرى لو سقطنا داخل الثقب الأسود؟ سؤال قد يكشف مشكلة أساسية في الفيزياء الحديثة
لو أراد أحدهم الانتحار بالقفز نحو الثقب الأسود؛ فمالذي سيراه قبل أنْ يفارق الحياة؟
بهذا السؤال بدأ الفيزيائي "جو بولتشينسكي" في معهد كافلي للفيزياء النظرية في سانتا باربرا تفكيره في محاولة وصف المنطقة المحيطة بالثقب الأسود، والتي تُعرَف بأفق الحدث، والتي تُمثل المنطقة التي لا يخرج منها أي شيء بعد دخوله؛ حتى الضوء بسرعته الشديدة لن يستطيع الإفلات من قبضة جاذبية الثقب الأسود لو تجاوز هذا الحد، ولكن ما ابتُدِأ كسؤال للبحث عن تفاصيل دقيقة لإكمال حل ما؛ كان يعتقده الفيزيائيون أمرًا شبه محسوم تحوَّل إلى مشكلة كبيرة لا يُمكن حلها إلا بأحد خيارين إذا لم يتوصل أحد ما لحل أقل تكلفة: فإما التخلي عن النسبية العامة كنظرية أساسية، وإمّا التخلي عن ميكانيك الكم كنظرية أساسية.
ولكن لفَهم كيف آلت الأمور نحو ذلك الاتجاه؛ يجب علينا العودة للوراء قليلًا، فعندما نشر آينشتاين نظرية النسبية العامة عام 1915 افترض كأساس للنظرية وجود تكافؤ بين حالتين: ما سنشعر به لو كنا نطفو في الفضاء الخارجي دون تأثير الجاذبية، وما سنشعر به لو كنا نسقط سقوطًا حرًا تحت تأثير الجاذبية حتى لو كانت جاذبية شديدة جدًّا كالثقب الأسود، وقد عُرِف هذا المفهوم بمبدأ التكافؤ (لتفاصيل أكثر راجع مقال النسبية العامة 1 هنا ).
وفي بداية السبعينيات دمج هوكينغ في دراسة الثقوب السوداء مفاهيمَ النسبية العامة مع المفاهيم الأساسية في ميكانيك الكم، وتوصَّل بذلك إلى أنَّ التأثيرات الكمومية في المنطقة المحيطة بالثقب الأسود ستجعله ينكمش ببطئ كأنه يتبخر؛ إذ يصدر عن المنطقة المحيطة به -والمسماة أفق الحدث- سيلٌ من الجسيمات ندعوها إشعاع هوكينغ، وبسبب التأثيرات الكمومية لا يكون الفراغ خاليًا تمامًا بل تتشكل أزواج من الجسيمات والجسيمات المضادة وتفنى خلال زمن قصير جدًّا.
ولكن ما يحصل حول الثقب الأسود هو أنَّ أحد هذين الجسيمَين ينجذب نحو داخل الثقب الأسود بينما ينطلق الآخر مبتعدًا عنه؛ إذ تُشكِّل جميع الجسيمات الصادرة سيلًا من الإشعاع، ويتميز هذا الإشعاع بأنَّه لا يتعلق إطلاقًا بطبيعة المادة داخل الثقب الأسود، فلو رميت فيه كومةً من الحجارة أو من أجهزة الآي فون سيصدر الإشعاع نفسه؛ فلا يمكننا معرفة أي شيء عن حالة المادة داخل الثقب الأسود وستتلاشى هذه المعلومات بتلاشي الثقب الأسود في نهاية المطاف.
ومع أنَّ الأمر يبدو عاديًّا للوهلة الأولى؛ لكنه يتعارض مع أحد أهم مبادئ ميكانيك الكم، فوصْفُ حالة المادة هو خاصة ثابتة لا تزول ولا تنعدم بحسب معادلات ميكانيك الكم، فالمعلومات عن كل ما يسقط داخل الثقب الأسود يجب أنْ تبقى محفوظة وقابلة للقياس، وقد أدى ذلك لجدل كبير وانقسام بين الفيزيائيين بين مؤيد لفكرة ضياع المعلومات، ومؤيد لفكرة انحفاظها.
نشر عام 1997 الفيزيائي خوان مالدسينا ورقةَ بحثٍ اقترح فيها أنَّ أيّة عملية فيزيائية في منطقة من كوننا ثلاثي الأبعاد (منطقة كروية الشكل مثلًا) يمكن وصفها فيزيائيًا بوصف حالة السطح المحيط بالمنطقة الثلاثية الأبعاد أيضًا (سطح الكرة في مثالنا).
وقد وجد الفيزيائيون لاحقًا أنَّه من الممكن تطبيق المبدأ على كوننا كاملًا للبحث عن احتمال وصف الكون كاملًا وذلك بنظرية تتعلق بالعمليات الفيزيائية على السطح الخارجي للكون فقط.
(يمكنكم مراجعة مقالنا أيضًا: بحث جديد يعزز من فرضية أنَّ الكون قد يكون مجرد صورة هولوغرافية:هنا ).
وقد وجد فيزيائيون آخرون - مثل لينارد ساسكيند من جامعة ستانفورد- أنه يمكننا أنْ نستخدم هذا التوافق لحل مشكلة ضياع المعلومات في الثقب الأسود، بدلًا من أنْ نقول أنَّ وصف الحالة الفيزيائية للذرات داخل أفق الحدث قد فُقِدَتْ للأبد؛ يمكن القول أنَّ المعلومات عن داخل الثقب الأسود لاتزال موجودة على السطح الخارجي له، وبذلك تبقى المعلومات عن الحالة الفيزيائية محفوظة من الضياع، ويمكن بدراسة سطح هذه المنطقة معرفةَ جميع المعلومات عن داخلها.
وقد عٌدَّ للوهلة الأولى أنَّ المعضلة قد حُلَّتْ ولكنها تنتظر صياغة أكثرَ دقة رياضيًّا وبمعادلات وبناء رياضي متين أكثر، على الرغم مما تبين من أهمية لمنطقة أفق الحدث في دراسة الثقب الأسود؛ لكنها تبقى -بحسب مبدأ التكافؤ- منطقة عادية من الفضاء حول الثقب الأسود وأي شخص يسقط نحو الثقب الأسود سيعبُرها دون أنْ يشعر بشيء مميز.
فعندما حاول جو بولتشينسكي وفريقه الإجابة عن تساؤلهم عمَّا سنراه لو سقطنا نحو الثقب الأسود، بدؤوا بمحاولة بناء وصف رياضي محدد لانحفاظ المعلومات في الثقوب السوداء، وقد كانت الآلية المُقترحَة من قِبَل لينارد ساسكيند وزملائه للحفاظ على معلومات الحالة الفيزيائية؛ هي وجود ترابط أو تشابك كمومي مابين الجسيمات الصادرة كإشعاع هوكينغ، وقد بين عدة فيزيائيين سابقًا أنَّ أزواجَ الجسيمات والجسيمات المضادة التي ذكرنا أنَّ أحدها يسقط باتجاه الثقب الأسود والآخر ينطلق مبتعدًا عنه مُشكِّلًا إشعاع هوكينغ، بين عدة فيزيائيين أنَّ الحالة الفيزيائية لكل من الجسيمين مرتبطة بالآخر بتشابك كمومي أيضًا.
وقد بدأتْ المشكلات بالظهور -تحديدًا- بسبب مبدأ إضافي يتعلق بميكانيك الكم والتشابك الكمومي؛ فالجسيم المرتبط كموميًّا مع جسيم آخر لا يمكن أنْ يُشكِّل أي تشابك كمومي مع جسيمات ثانية؛ لا يمكننا أنْ نقول أنَّ الجسيم الصادر كإشعاع هوكينغ متشابك كموميًّا مع بقية الجسيمات الصادرة من جهة ومع توءمه الذي سقط في الثقب الأسود من جهة ثانية في الوقت نفسه، لذلك يجب أنْ تؤدي التأثيرات الكمومية لكسر أحد التشابكين، ولكي تبقى المعلومات مصونة من الضياع يجب كسر التشابك بين الجسيم الصادر والجسيم الذي سقط نحو الثقب الأسود.
وأظهرت نتائج حسابات بولتشينسكي مع اثنين من طلابه أنَّ كمية الطاقة الناتجة في حال كُسِر هذا التشابك ستكون هائلة جدًّا؛ إذ سيتحول أفق الحدث المحيط بالثقب الأسود لجحيم حقيقي سيحرق أي جسم يسقط نحو الداخل حرقًا تامًّا مما يُخالِف فكرة أنَّ أفق الحدث يجب أنْ يكون منطقة عادية من الفضاء لا يشعر فيها المراقب بأي اختلاف حسب مبدأ التكافؤ الذي بُنيت النسبية العامة على أساسه.
إذًا مالذي يحدث؟ هل هناك خطأ ما؟ أم أننا فعلًا قد اصطدمنا بحدود أحد النظريتين الأساسيتين في الفيزياء الحديثة؟
فإما التخلي عن أحد مبادئ ميكانيك الكم وإعادة صياغة النظرية فتسمح بضياع المعلومات عن وصف الحالة الفيزيائية للجسيمات، وإمّا أنْ نعيد صياغة النسبية العامة فنتخلى عن مبدأ التكافؤ مما يسمح بظهور هذا الحاجز الناري المحيط بالثقب الأسود، لأن ذلك مستحيل كليًا حسب مبادئ النسبية، فكما يقول رفاييل بوسّو؛ مختص نظرية الأوتار في جامعة كاليفورنيا ببيركلي: " لا يمكن ببساطة تخيل وجود حاجز كهذا على نحو مفاجئ في الفضاء، فالأمر مشابه لأنْ تتخيل ظهور حاجز من الحجارة فجأة أمامك ليصطدم به رأسك" .
وقد ظهرتْ عشرات أوراق البحث منذ ظهور بحث بولتشينسكي لمحاولة حل المعضلة دون وجود أي تقدم يذكر حتى الآن. ولكن الإجماع العام حتى الآن أنَّ هذه المشكلة قد تستمر لفترة طويلة دون حلها، ويقول بولتشينسكي: "يؤسفني أنه لم يتمكَّن أحد حتى الآن من التخلص من الجدار الناري، ولكنْ أرجوكم استمروا بالمحاولة".
البحث المنشور: Almheiri، A.، Marolf، D.، Polchinski، J. & Sully، J. Preprint at هنا.
المصدر: هنا