الفيزياء والفلك > فلسفة الفيزياء والكونيات
هل تطوّر الإنسان لِيكتَشِفَ الفَضاء وينتشر فيه؟
لماذا يميلُ الإنسان إلى استكشافِ الفَضاء؟
هل هي مُجرّدُ رغبةٍ لدى البَعضِ؟ كالرّغبةُ مثلًا في البَحث عَن مَطعَمٍ جَديد بدلاً من التَردُد بِاستِمرار على مطعمٍ مَألوف؟ أم أنَها الرّغبةُ في إثباتِ نَجاحِ جِنسنا البشري؟ هل الرغبةُ باستيطانِ الفَضاء أمرٌ مُرتبط بتركيبنا الجينيّ؟ وهل هو أمرٌ حتميّ أم أنهُ نوعٌ مِنَ التَرَف؟
أنهيتُ مؤخراً قراءة الكِتابِ الرائِع "ما وراءَ مُستقبَلِنا في الفضاء (Beyond: Our Future in Space) لِعالِم الفَلك كريس إمبي (Chris Impey). بدأ إمبي بفكرة قيام مجموعات صغيرة من البشر الذين هاجروا من أفريقيا قبل نحو 70،000 سنة مضت وتطوروا بسرعة لينتشروا في أنحاء الكوكب.
كتبَ إمبي: "منذ حوالي 65 ألف سنة مضت، غامرنا بالخروجِ لِلمرَةِ الأولى خَارِجَ قارَتِنا الأصلية، وكان الطريق من منطقة القرن الأفريقي إلى منطقة شبه الجزيرة العربية يمرُّ على الأغلب بمضيق باب المندب. يُعد هذا المضيق اليوم أحد أكثر الممرات البحرية ازدحاماً على مستوى العالم ولكنه في ذلك الوقت كانَ مُجرّدَ قناةٍ ضيّقة وضَحلة".
لم تتجاوز تلك المجموعَة المُهاجِرة ألف فردٍ أو نحو ذلك، ومِنَ المُرجّحِ أنَهُم هاجروا على شَكلِ مَوجاتٍ مِنَ القبائِلِ الصَغيرة خِلال 20 إلى 30 ألف سنة وانتشروا في آسيا وأستراليا وأوروبا، وبعد 16 ألف سنة تمكنوا من عبور الجسر البري لبحر بيرنغ ليستقروا في أمريكا الشمالية والجنوبية ، وربما عبروا المحيط الأطلسي.
يَعتقِدُ إمبي أنَ هِجرَةَ الإنسان القديم نَحوَ مناطق مُختلفة من الكَوكب هي دليلٌ واضِح على روحِ الاستِكشاف والمُخاطَرة عند الإنسان. فخِلالَ العقودِ القَليلَة الأخيرة حدّد الباحثون ما أسماهُ البَعض "جين المُهاجر" المعروف في الأوساط العلمية بـاسم (DRD4-7R) الّذي يعتقِدُ بعض العلماء بِأنهُ مرتبطٌ برغبة الإنسان في الهجرة واكتشافِ آفاقٍ جديدة. فقد توصّل تشوانشينغ تشن (Chuansheng Chen) من جامعة كاليفورنيا عام 1999 إلى أن هذا الجين هو حاليًا أكثر شيوعاً في الحضارات المُهاجِرة مُقارنةً بالحَضاراتِ المُستَقِرة. كَما أكدت دِراسَةٌ لاحقة أكثَر دِقةً مِن النَاحية الإحصائية أجريت عام 2011 تلك النتائج، ووجَدت أنَ المُتغيّر (7R) إضافةً إلى مُتغيرٍ آخر يُعرف باسم (2R) يَميلانِ إلى التواجُد بِشكلٍ مُتكَرِر في المُجتَمعاتِ السُكانية الّتي هاجَر أسلافُها مَسافاتٍ أطولَ خارجَ أفريقيا".
بالتأكيد لا يُمكن لجينٍ مُنفَرِد أن يُفسِرَ سُلوكَ البشريةِ بأسرها، فالبيئة والثقافة يقتَسِمانِ أدواراً مُتساوية الأهمية في تحديد السلوك البشري، ويشرح دوبز في مقالته التوسُّع المَلحوظ لِسُكان منطقة بولنيزيا في جنوب الصين عبر الرقعة الشاسعة للمحيط الهادي، فقد قام سكان تلك المنطقة باستيطان جميع الجُزر الّتي عرفوها، وعندما وصولوا إلى المُحيطِ المفتوح توقفوا عن التوسّع، لكن ليس طويلًا. فقد طوّروا تقنياتٍ تمكنهم من بناءِ سُفنٍ أكثر صلابة مكَنتهُم مِنَ الوصولِ إلى أماكن جديدة، وفي نِهاية المطاف أوصلتهم إلى الأمريكيتين.
إنَ الأمثِلَةَ التَاريخيَّة العَديدة تَجعَلُنا نَستنَتِج أنَ حُبَّ الاستِكشافِ هوَ أمرٌ مُتأصّل في الطبيعةِ البشريّة، ليسَ فَقط في جيناتِنا وَحسب بَل في قُدرةِ أيدينا على البِناء وفي مُخيلتنا الّتي تصنَعُ أدواتٍ جديدة لتحقيق غايتنا في السفر وسبرِ آفاقٍ جديدة.
مرةً أُخرى يَبدو أننا نَقِف على شاطيء بحرِ عَظيم، ولكنهُ هذه المَرَة يُسمّى الفَضاء. هُناكَ مَن يعتقد بأنَ البَشرية تَحتاجُ إلى حُدودٍ جديدة. نحن بِحاجَةٍ إلى أفاقَ جديدة نبذُلُ فيها طاقاتنا، ونُعَظِّمُ الأبطال الشُجعان الّذينَ يَعبُرونَ الحُدود، حتى وإِن لَم تُكتَب لَهُم العَودة، لِأنَّهُم بِبَساطة يُمثلون شيءً مهمًا ومُتأصِلًا فينا.
لهذا تحديداً تَهُمُنا دِراسَةُ الفَضاء، فإن استطَعنا اجتيازَ عُنُقِ الزُجاجَةِ المُتمثل بالقدرة على الحفاظ على الحياة على كوكبنا والحد من الاحتِباسِ الحَراريّ الّذي يَقِفُ كعائقٍ في طَريقِنا، فسيكون هناك العديد من الشواطئ الجديدة بانتظارنا. وفي حين أن البعض يَعتَقِدُ بأنهُ يَجدرُ بنا تَحسينُ أداءنِا فِي وَطنِنا الأرض قَبلَ القِيامِ بأيّ مُغامَرةٍ خارِجَها، فإنَ المُفارقة هيَ أنَ هاتَين الحاجَتين مُرتبطتانِ بِبَعضِهِما.
أي أنّنا سنتمكّن مِن تَحسينِ حياتِنا هُنا عَلى الأرض، لو اكتَشفنا كيفيّةَ عَمَلِ الكواكب الّتي نسافر إليها. فقد قدّمت لنا علوم الفضاء بالفعل كلّ ما نَحتاجهُ مَنَ الأفكار والتوضيحات اللازمة لِمعرِفَة آلية عمل كوكب الأرض بشكلٍ كامل.
نعم، يبدو أنَنا وُلدِنا لِنَستَكشِفَ ونَعبُرَ الحُدودَ بِاستِمرار، مَزيجٌ ما بين التطوّر والثقافة جَعلَنا نُصبِحُ مُكتشفينَ متجولين. والآن، مع وجود الكثير من الوجهاتِ الواعِدة ، تقعُ على عاتقنا مسؤوليةُ إدراك هذه الحقيقة لِنُحدد وجهتنا القادمة.
نبذة عن الكاتب
آدم فرانك هو عالِمٌ في الفيزياء النظرية والفلكية من الولايات المتحدة الأمريكيّة، وأستاذُ في جامعة روشستر Rochester. يرأسُ حاليًا مَجموعةً من الأبحاث الّتي تهدِفُ لتطوير برنامجٍ حاسوبي مُتخصص في دِراسَةِ تشكّل وموت النجوم. وفي الآونة الأخيرة بدأ العمل في مجالات البيولوجيا الفلكية واستخراج المعلومات والنظريّات من البيانات الإحصائية المُختلفة.
فرانك هو مؤلِفُ كتابين: The Constant Fire، Beyond the Science vs. Religion Debate، وكتاب About Time، Cosmology and Culture at the Twilight of the Big Bang، ولهُ مُساهماتٌ عديدة في في صَحيفَةِ نيويورك تايمز والمَجلات العلميّة مثل Discover، Scientific.
المصدر: هنا