الطبيعة والعلوم البيئية > عجائب الأحياء
كهفٌ معزول ينبض بحياةٍ عمرها ملايين السنين
مقالنا اليوم عن كهفٍ بقي معزولاً لفترة طويلة ولم يكتشف إلا عام 1986 ليحمل إلينا عجائب في علم الأحياء وقدرتها على التحمل.
الموقع والاكتشاف:
يقبع كهف موفيل في أراضٍ سهلية قاحلة غير واضحة المعالم في جنوب شرق رومانيا، وعلى بعد بضعة أميال من البحر الأسود والحدود البلغارية، ويمتلك نظاماً بيئياً مميزاً وفريداً من نوعه، لكونه بقي معزولاً لمدة تزيد عن خمسة ملايين عام، وقد اكتــُـــشف هذا الكهف في عام 1986 عندما انطلقت رحلةٌ للبحث عن أرض ملائمة لبناء منشأة للطاقة النووية في رومانيا.
يحمي الكهف مجموعةً من الممرات العمودية وأنفاق الأحجار الكلسية، والتي كانت سبباً رئيسياً لبقاء الكهف معزولاً لكل هذه السنوات. لم يتجاوز عدد الذين دخلوا الكهف منذ اكتشافه الـ 100 شخص بسبب إغلاقه من قبل السلطات؛ إذ لا يسمح بالدخول إليه إلّا بإذن خاص، وذلك بسبب خطورة ظروفه التي ستتسبب بآلام في الرأس واحتشاء في الكلى لكل من يمكث فيه أكثر من 5 ساعات.
ما هي ظروف الكهف إذاً؟
يتميز الهواء داخل كهف موفيل بأنه رطب بشكل خطير لا يطاق، وهو يحتوي على نصف كمية غاز الأوكسجين من نسبته الطبيعية في الهواء الجوي، بينما ترتفع نسبة غاز ثنائي أوكسيد الكربون جداً لتصل إلى 100 ضعف نسبتها الطبيعية في الهواء، ويحتوي هواء الكهف أيضاً على نسب مرتفعة من غاز كبريتيد الهيدروجين.
تسود الكهف من الداخل ظلمة حالكة فهو لم يرَ ضوء الشمس لما لا يقل عن خمسة ملايين عام ونصف. يتألف الكهف من الداخل من مجموعة من الممرات الضيقة وبحيرة، ويؤدي الغوص عبر البحيرة واجتياز متاهاتها المائية إلى الوصول إلى الأجزاء الداخلية من الكهف وهي مساحات مهواة تدعى نواقيس الهواء. يغطي الكهف من الداخل طبقة رقيقة من الطين؛ غير نفوذة للماء، ولا نجد في الكهف صواعدَ أو هوابط (والتي تشكل إن وجدت دليلاً على نزول الماء إلى الكهف كقطرات تحمل عادةً معها جزيئات الغذاء للكائنات الحية في الداخل). أُجري اختبار لمياه الكهف بحثاً عن أثر للمواد المشعة كالسيزيوم والسترونتيوم التي انطلقت من حادثة مفاعل تشيرنوبل النووي التي أطلقت الكثير من جزيئات المعادن المشعة في الترب والبحيرات المحيطة. أكّد الاختبار على عدم وجود أي أثر إشعاعي في مياه الكهف التي تخلو أيضاً من جزيئات غذائية، وهذا إن دلّ على شيءٍ فإنما يدلّ على أن مصدر مياه الكهف جوفيٌّ من باطن الصخور الرملية الإسفنجية المتوضّعة هناك منذ أكثر من خمسةٍ وعشرين ألف سنة.
بالرغم من هذه الظروف البيئية القاسية من غياب كامل للضوء والهواء السّام فإنه يعج بالحياة، إذ صنـّـف العلماء حتى الآن 48 نوعاً من الكائنات الحية؛ 33 منها لم تشاهد في أي مكان في العالم.
كائنات كهف موفيل:
يوجد داخل هذا الكهف الغريب مجموعة من الكائنات الحية صنفها العلماء في عام 1996 في هذه المجموعات:
• ثلاثة أنواع من العناكب
• أربعة أنواع من وحيدات الأرجل (يقع ضمنها قمل الغابات)
• العلق
• حشرة غريبة المظهر تدعى عقرب الماء
• حشرات أم أربع وأربعين (الحريش)
• بالإضافة إلى حلزون الماء والجمبري.
لا يوجد ذباب في الكهف، إلا أن العناكب تغزل شباكها لتصطاد حشرات صغيرة من رتبة "القافزة بالذنب". يتجنب حلزون الماء والجمبري، العناكب وعقارب الماء، ويسبح العلق عبر الماء ليصل إلى نواقيس الهواء ليفترس ديدان الأرض، وبشكل غريب تزداد أنواع الكائنات الحية كلما ازدادت سمية الهواء في أجزاء الكهف.
لا تستطيع هذه الكائنات أن ترى فهي تفتقر للأعين وحاسة البصر، كما تفتقر أيضاً إلى الصباغ فهي شفافة، ومعظمها طويل بشكل عنقودي مع أعضاء زوائد وقرون استشعار طويلة لتساعدها في الملاحة ضمن ظلمة الكهف شديدة السواد، فمن عساه يحتاج لحاسة البصر أو ليبدو جميلاً في الظلام الحالك؟
لكن كيف تتغذى هذه الكائنات الحية في ظل ظروف الكهف القاسية؟
من المؤكد أن غياب الشمس يحرم البيئة من وجود نباتات تستثمر الضوء لإنتاج الطاقة، لذلك لجأ قاطنوا كهف موفيل إلى طبقة الزبد السطحي الطافي على سطح الماء، والمكوّن من مليارات البكتيريا ذاتية التغذية، التي تعتمد على عملية التخليق الكيميائي في اصطناع المواد الغذائية اللازمة لها ولبقية الكائنات في الكهف. تأخذ هذه البكتيريا الكربون اللازم لها من غاز ثنائي أوكسيد الكربون من جو الكهف والذي تتزايد نسبته تدريجياً كلما تسبب حمض الكبريت بحتّ الصخور الكلسية، وبدلاً من استخدام ضوء الشمس تأخذ هذه البكتيريا الطاقة اللازمة لها من أكسدة الكبريتيد وأيونات الكبريت الأخرى المتواجدة إلى حمض الكبريت أو من أكسدة الأمونيوم الموجود في مياه البحيرة إلى نترات، منتجةً المركبات المغذية اللازمة.
ليس هذا كلّ شيء؛ إذ تستمد مجموعة أخرى من البكتيريا المدعوّة ببكتريا الميثان، كربونها والطاقة اللازمة لها من فقاعات غاز الميثان المنطلقة من الماء. توصف هذه البكتريا بشراهتها وطرحها المستمر لنواتج استقلابية وسطية كالميثانول والفورمات في المياه موفرةً مصدر غذاء لأنواع بكتريا أخرى.
رغم تشابه بكتريا الكهف مع غيرها في بقية النظم البيئية إلا أنها السبب في ارتفاع سمية الهواء فيه وتفرد نظامه البيئي
لكن... لماذا دخلت هذه الكائنات الحية كهف موفيل؟
وفقاً لإحدى الفرضيات؛ فقد أجبرت بعض الحيوانات للجوء إلى الكهف بحثاً عن المياه الدافئة والأمان نهاية العصر الميوسيني منذ حوالي خمسة ملايين سنة ونصف، عندما تغير مناخ نصف الكرة الشمالي، وتحركت إفريقيا شمالاً إلى المحيط الأطلسي. لا تزال هذه الفرضية صعبة الإثبات على أية حال. تقترح فرضيةٌ أخرى أن الحشرات احتجزت أثناء انهيارات الصخور الكلسية في حين كانت البكتريا هناك منذ أكثر من 5 ملايين عام.
ما الفائدة من وجود كهفٍ كهذا؟
يرى العلماء في بكتيريا كهف موفيل ذاتية التغذية الكيميائية أملاً في إيجاد طرق ذات كفاءة في التخلص من ظاهرة الاحتباس الحراري؛ فمقدرة هذه البكتيريا على أكسدة غاز ثنائي أوكسيد الكربون وغاز الميثان؛ المسببان الرئيسيان لظاهرة الاحتباس الحراري، قد تكون أملاً واعداً.
رغم مرور ثلاثين عاماً على اكتشاف كهف موفيل، لا تزال الكثير من الأسرار عن تكيف أحياءه قابعةً في أعماقه. ربما تحمل هذه الأسرار تلميحاتٍ أو إشاراتٍ عن نشأة الحياة على الأرض، وحقائقَ مثيرةً في علم البيولوجيا التطوري وفي طبيعة الحياة نفسها، فهل سنكتشف المزيد؟
المصدر: