التاريخ وعلم الآثار > حضارة اسلامية
الشيخ المؤرخ الإمام الطَبَري
أبنائي الباحثين سلام من الله عليكم ورحمةٌ من لدنه والبركات
محمد بن جرير بن يزيد الطَبًري هو اسمي وأبو جعفر لقبي. أبصرتُ نورَ الحياة في العام 224 للهجرة في مدينة أمول في طَبَرستان في إيرانَ اليوم.
عشت وترعرعتُ في بيت علم وورع فأتممتُ حفظ القرآن في السابعة من عمري، وفي سنّ الثانية عشر يمّمتُ وجهي إلى مدينة الريّ لطلب العلم وهناك أمضيتُ خمسَ سنوات أتلقّى العلم عن أبي عبد الله محمد بن حميد الرازيّ الذي ترك في نفسي أكبرَ الأثر وعلى يديه تعلمتُ التاريخ والسيرة النبويّة.
محطتي الثانيةُ كانت بغدادَ وهناك درست الفقه على المذهب الحنفيِّ وتنقّلتُ بين مدنِ البصرة والكوفة حيث التقيتُ هناك بالعديد من العلماء البارزين آنذاك وتعلمتُ منهم. لم يُشبٍع المذهب الحنفيّ نهمي للفقه فدرستُ أيضاً المذاهبَ الشافعيّة والمالكيّة والظاهريّة، وعلى الرغم من درايتي التامّة بالمذاهب الأربعة إلا أنه قد عُرِف عني الاستقلال في الرأي، وليَ العديدُ من المناظرات الفكريّةِ التي خضتُها مع أساتذتي وزملائي والتي كانت تمثّلُ حريّة الفكر وطرح الآراء بصورةٍ بناءةٍ.
وعلى الرغمٍ من حسنِ علاقتي مع الخليفةِ العباسيّ الذي أوعز لي بدارسة القانون إلا أنني رفضت عرضه بتولي القضاء ولم أقبل أبداً أجراً أو مكافأةً، فبقيت عاكفاً بقيةَ حياتي على التأليفِ والتصنيف بعد أن اكتملت ثقافتي الدينيّةِ والتاريخيةِ.
لم أتردد يوماً في التعبير عن رأيي المستقلِّ بالحكمِ والاجتهادِ، فكان لدي مذهبي الفقهيّ الخاص بي والمسمى بالمذهب الجريري. إضافة لذلك فقد كتبتُ بالإضافةِ إلى الفقهِ في علومِ التاريخِ واللاهوتِ والتفسيرِ، فكان كتابي في تفسير القرآن المعروف بتفسير الطبري واحداً من أهمّ الأعمال وأكثرَها شهرةً وتأثيراً والذي عُرفَ بغناه بالمعاني والتفاصيل.
أما في التاريخِ فكان كتابي "تاريخُ الرسلِ والملوكِ" والذي عُرف فيما بعد بـ "تاريخ الطبري"، وفيه تناولتُ التاريخَ العالميَّ منذ بدءِ الخلق إلى عام 915 ميلادية ويُعدُّ واحداً من أهمِّ مصادر المؤرخين بل والمصدر الرئيسي للعديد منهم، ولي أيضا كتاب "تهذيب الآثار" وكتاب "اختلاف الفقهاء" والعديد من الكتب الأخرى.
فكري المستقلُّ ورأيي الحرٌّ لم يكونا محطَّ ترحيبٍ عند العديد من علماء القرن الثالث الهجريّ في العصر العباسي لما عرف عن بعضهم من تعصّب ومغالاة، وكانت الطامّة عندما أبديت رأيي بالمذهب الحنبليِّ أحد أكبر المذاهب اتباعاً آنذاك، إذ قلتُ أنّ ابن حنبل لم يكن فقيهاً بالمطلق إنما ناقلاً ومترجماً للأحاديث، الأمر الذي أثار سخطَ الحنابلة وبعض عوامهم لأُتَّهم بالإلحاد والزندقة. ووصل الأمر بهم إلى رجم بيتي بالحجارة ومحاولةِ اقتحامه و في كل مرة كانت تأتي السلطات العباسية لتجبرهم على تركي بالقوة. ولكثرة اعتداءاتهم حاول قائد شرطة بغداد تنظيم مناظرة بيني وبينهم وكانت موافقتي حاضرةً كيف لا وأنا صاحب الفكر والرأي الحر وتحكيم العقل إلّا أن الحنابلة رفضوا المناظرة واستمرت اعتداءاتهم عليّ لبقية حياتي.
توفيتُ في عام 310 هجرية وقامت السلطات العباسية بدفني سراً تحت جنح الظلام خوفاً من أعمال الشغب من قبل الجموع المتعصّبة.
وبين الماضي والحاضر يبقى التعصّب والغلوُّ مشنقةً لحرية الرأي والفكر والعلم والإبداع.