كتاب > روايات ومقالات
مراجعة رواية (البؤساء): ظلم الإنسان للإنسان
إن كان مُقدّراً لرواية ما أن تُخلد في تاريخ الإنسانية أو تنقل من جيلٍ إلى جيل، فعلى رواية البؤساء أن تحتل المرتبة الأولى في خيارات الخلود. لم يحدث حتى اليوم أن ارتقى عمل أدبي كلاسيكي لمرتبة خلودها وسموها. ملحمةٌ بشرية صاغها لنا فيكتور هوغو ليقدم من خلالها معاناة بشرية من النادر أن تحدث، ومن النادر أن يتخيلها أحد ومن النادر أن تجرؤ على التفكير بواقعيتها. قصةٌ بطلها جان فالجان وأبطالها كل من فانتين وكوزيت وماريوس. قصة استطاع فيكتور هوغو من خلالها عجن مآسي القرن التاسع عشر عند الفقراء في شخصيات بشرية ثلاثة تجرعت من البؤس والحزن ما يفيض عن التّحمُل. قصة أحداثها تبدأ في أوائل القرن التاسع عشر 1815 في قرية ديني في فرنسا.
تُقسم الرواية إلى خمسة أجزاء، عنوان كل جزء منها ما عدا الرابع اسم بطلٍ من أبطال الرواية. الجزء الأول عنونه هوغو باسم فانتين والثاني باسم كوزيت والثالث باسم ماريوس والخامس باسم جان فالجان. أما الجزء الرابع فيحمل اسم قصيدة شارع بلوميه الرعائية وملحمة سان دونيز. تنتقل الرواية انتقالا في الأحداث لا مثيل له، وذلك بسبب براعة فيكتور هوغو في صوغ حبكة الرواية من بدايتها إلى نهايتها.
تبدأ الرواية بدخول المحكوم بالأشغال الشاقة جان فالجان منزل الأسقف الديني مسيو ميرييل، وسرقته لشمعدان. وينتقل بعدها جان فالجان إلى مدينة مونتروي سور مير لتزدهر المدينة في عهده بسبب صناعة الخرز الكهربي والزجاج الأسود ليصبح عمدة المدينة، ولكن سوء الأقدار تجمعه بفانتين التي كانت تعمل بأحد معامله والتي تم طردها من خلال مشرفيه. من هنا تبدأ القصة المأساوية لأضلاع القصة الثلاث جان فالجان وفانتين وابنتها كوزيت، التي تخلت عنها أمها لعائلة دنيئة من أجل أن تستطيع فانتين العمل وجمع المال لتستطيع إرجاع ابنتها. وتتالى الأحداث الكثيفة المتغلغلة ببعضها، لتصل بنا إلى أحداث ثورة عام 1832 ولقاء كوزيت الشابة بماريوس وحبهما العنيف.
أما إذا أردنا أن نرى ما في الرواية من جمالية فعلينا أن نُذهل بسبب تماهي الوصف مع الخيال في الدماغ ليجعل القارئ يتخيل الأحداث دقيقةً دقيقة، وجملةً جملة ومقطعاً مقطع. البراعة التي أبدعها هوغو في وصف بعض الأحداث كوصف مشهد قسم الشرطة بين الشرطي جافير والعمدة مسيو مادلين (جان فالجان) وفانتين. وكوصف أحداث محاكمة مسيو مادلين، ووصف طريقة تعامل أسرة تيناردييه مع الطفلة كوزيت ووصف مناقشات أصدقاء الألفباء والوصف الرائع لتبرعم حب ماريوس وكوزيت في حديقة اللوكسمبورغ ومشاهد هرب جان فالجان من الشرطي جافير ووصف أحداث منزل بيت غوربو العتيق ووصف أحداث ثورة 1832 على متراس شارع شانفريري والوصف الرائع في الصفحات الأخيرة من الرواية.
ولا يجب أن ننسى المعلومات التاريخية التي قدمها لنا ابن فرنسا فيكتور هوغو عن الأساقفة وحال الأسقفيات في فرنسا في القرن التاسع عشر، وعن طريقة عيش الريفيين والفقراء في أرياف فرنسا وأحوالهم الإقتصادية والإجتماعية، وعن أحوال فرنسا السياسية امتدادا من الثورة الفرنسية عام 1789، مرورًا ببزوغ الإمبراطور نابوليون بونابرت ومعركة وارترلو وسقوط الإمبراطور، وحتى عام 1817 ثم وصول لويس فيليب للعرش وسياسته، وتبادل الجمهوريين والملكيين السلطة وإعطائنا لمحة عن القوانين الفرنسية. وكذلك وصف باريس القرن التاسع عشر، وأحوال برجوازييها وجمهورييها والألقاب المسبغة على أفراد كليهما. ثم الحديث عن البؤس والجريمة والجهل في الدائرة السفلى من المجتمع حيث تجتمع الجريمة مع الفقر والجهل لتكون خليطاً مرعباً يستعصي على أعتى المصلحين الوصول له بسهولة. ومن بعده يسرد هوغو تفصيلياً لنا أحداث ثورة 1832 وأسبابها. ولم ينسَ فيكتور هوغو أن يعطي للقارئ لمحة عن لغة السوقة، أي اللهجة الشعبية الحقيرة، ثم تطرقه لبالوعة باريس ودهاليزها السفلية.
إنّ أهمية الرواية تكمن بالدرجة الأولى في قيمتها الإنسانية وعرضها لمشاعر كالحب والألم والعاطفة العميقة بين أفراد الرواية وتقلب تلك المشاعر وازدهار الكره ومقابلته بالإحسان والعفو، وهو ما نراه كثيراً في عدة مواقف لجان فالجان. ولكن هوغو لم يقتصر على وصف المشاعر، فتطرق أيضًا للثورة الفرنسية وأثرها في فرنسا وفي المجتمع الفرنسي، وفي العلاقات بين المواطنين، وكيف استمر كلٌّ من العدالة والظلم بالتناوب في تداول السلطة في فرنسا وأثرها على الناس بكافة أطيافهم، وحتى بزوغ مفاهيم سياسية واجتماعية واقتصادية جديدة واندثار الكثير منها. لقد كانت الثورة الفرنسية بمثابة الحدث الذي نقل أوروبا وفرنسا بالتحديد من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة، فتحدث كيف حوربت تلك الثورة من العديد من الدول الأوروبية برأي هوغو وكيف انعكس ذلك على المجتمع الفرنسي.
وأكثر ما في الرواية إيلاما هو القانون الفرنسي وظلمه بحق الإنسان في ذلك العهد. حيث أن سرقة رغيف من الخبز قد تودي بفاعلها إلى السجن المؤبد مع الأشغال الشاقة، هذا عدا عن النظرة الاجتماعية الدونية لذلك المظلوم وكيف يتم احتقاره وذله ودعسه بحجة القانون، حتى أنه قد لا يشفع له بتاتاً ما قد يقوم به من خيرٍ ونشرٍ للفضيلة والنهوض بالمجتمع كما نهض مسيو مادلين (جان فالجان) بمجتمع مدينة مونتروي سور مير. في حين أن عدم تكافؤ الفرص وسوء توزيع الثروة والظلم البشري وتعمية الجهل كانت العوامل الأساسية في الانحدار الإنساني إلى المدارك السفلى في فرنسا وفي كل مكان حدث فيه ما يشابه الأحداث الفرنسية في القرون التالية.
لن ينتهي الحديث عن البؤساء في مراجعة واحدة، حيث أن هذه المراجعة هي انتقاص من القيمة الأدبية لهذه التحفة الكلاسيكية الخالدة، ولكن يجب أن نلفت النظر لها وخاصة بعد انتشار الترجمات والملخصات السيئة جداً والمشوهة عن هذه الرواية باللغة العربية، حيث أن انتشارها هي أكبر إهانة للأدب الكلاسيكي ولفيكتور هيغو ولهذه التحفة الخالدة، حيث حرقت الرواية بكل ما للكمة من معنى وشوهتها تماماً فعليكم إذا اردتم أن تسمتعوا حقّاً أن تبحثوا عن ترجمة منير البعلبكي إلى العربية أو تقرؤوها باللغة الأم.
. =====================
معلومات الكتاب
- العنوان: البؤساء
العنوان الأصلي: Les miserables
المؤلف: فيكتور هوغو
المترجم: منير البعلبكي
الطباعة: دار العلم للملايين