الطبيعة والعلوم البيئية > علم البيئة
مياه الصرف الصحّيّ لمحاربة التصحُّر في مصر
تتلألأُ المياه تحت سماءِ شمال إفريقيا الزرقاءِ الصّافية، وكأنّها حوضُ سباحةٍ كبيرٍ تحيطُ به صفوفٌ من الأشجار. لكنّك من المؤكَّدِ لن ترغبَ في السباحة فيه إذا ما علمت أنّه حوضٌ لتصريف مياه الصرف الصحّيّ الناتجةِ عن نصف مليون شخصٍ يعيشون في بلدة الإسماعيلية القريبة. الملفتُ للنظر أنّ الأشجارَ المزروعةَ على طول ضفاف الحوض موجودةٌ في وسطِ الصحراء المصريّة!.
تقعُ غابة السيرابيوم الّتي تتغذّى بمياه الصرف الصحّيّ على بُعد حوالي ساعتَين بالسيارة من القاهرة، وهي جزءٌ من برنامج بحوثٍ بدَأَتهُ الحكومة المصريّة في تسعينيّات القرن الماضي، حيثُ تشكِّلُ مساحةُ الغابةِ البالغةُ 200 هكتارٍ موطِناً للعديد من الأشجار المحليّة وغيرِ المحليّة، بما فيها الأنواعُ ذاتُ القيمة التجارية مثلُ الأوكاليبتوس (الكينا أو الكافور) والماهوجني.
تغطّي الأرضَ تحتَ الأشجارِ طبقةٌ من أوراق الأشجار الجافّة المتساقِطة، ولا يوجدُ خارجَ هذه المنطقة إلّا رملُ الصحراء المحيطُ بمنطقة الزرع.
تَسْطَعُ أشعّة الشمس خارجَ المَزارع بشدّةٍ مساويةٍ لضعف ما هي عليه في أوروبا، لكنْ في داخل المنطقة المزروعة؛ تَلتقطُ أوراقُ الأشجار الأشعّةَ محفّزةً نموّ الأشجار، كما أنّ الظلَّ والرطوبة يسمحان للزهور والحيوانات بالازدهار.
الإجراءات المُتّبعة لسقاية الأشجار:
يقومُ طاقمٌ مؤلّفٌ من 18 عاملاً بالتحقُّق من حالةِ الأشجار المزروعة وقياسِ معدّلِ نموِّها، كما يحافظون على شبكة الريّ ذات الأنابيب السوداء الّتي تمدُّ جذورَ الأشجار بالمياه المُحمَّلةِ بالمُغذِّيات القادمةِ من حوض الصرف الصحيّ المجاورِ لها، مما يغني الأشجارَ عن المخصِّبات إذ تقدّمُ لها هذه المياه جميع المغذّيات المطلوبة. وبحسب الاختبارات الدوريّة لمْ تسبِّب المياهُ تلوّثَ تربة الموقع.
تُعالَجُ مياه الصرف الصحّيّ القادمةُ من الاسماعيليّة في عمليّةٍ مكونةٍ من مرحلَتَين قبل استخدامها للريّ. في المرحلة الأولى، تُزال الأوساخ الخشنة والنفايات كالبلاستيك والأوراق من المياه. وفي المرحلة الثانية، يُضاف إلى المياه الأوكسجين والميكروبات، حيث تساهمُ هذه الإضافات في تفكيك المواد العضويّة، بما في ذلك المواد النتنة، فتتكوّن مياهٌ بتراكيزَ مُرتَفِعةٍ من مركّبات الفوسفات والنتروجين، فتصبح وكأنّها سمادٌ من الدرجةِ الأولى مشابِهٌ لِما يمكنُ شراؤهُ على شكلِ مسحوقٍ من مراكز البستنة.
بقيت مياه الصرف الصحّيّ تُعالَجُ بهذه الطريقة في أوروبا حتى سبعينيّات القرن الماضي. أمّا اليوم وفي ألمانيا، توجدُ مرحلةٌ ثالثةٌ للمعالَجة تتمُّ خلالَها إزالة الفوسفات والنترات لمنعِ تراكمُ هذه المغذَيات في المسطّحات المائيّة الّتي ستُطرَحُ فيها المياه بعد المعالجة.
هذا هو الحال أيضاً في مصر: لا تُطرَح المياه المُعالَجة على مرحلتَين فقط مباشرةً في دلتا النيل، لأنها ستُسبب تلوثّ بساتين الفاكهة وحدائق الخضراوات بالمواد غيرِ العضويّة الزائدة والبكتيريا. لكنّ الأمرَ مختلفٌ في المناطق الّتي تنمو فيها النباتات والأشجارُ غيرُ المخصَّصة للاستهلاك البشري؛ إذ ستُسَرُّ بامتصاص المغذيات التي ستحملها إليها مياه الصرف المعالَجة.
إمكانيّات الاستفادة:
لسنواتٍ عديدةٍ؛ أجرى عالِمُ الغابات في جامعة ميونخ التقنيّة هاني الكاتب مشاريعَ بحثيّةً مُشتَرَكة حول زراعة الأشجار في الصحراء مع زملاءَ له من جامعة عين شمس في القاهرة، وأشارَ إلى أنّ أشجار الكينا المزروعةَ في مصر يمكن أن تُنتِج الخشب بمعدّل يساوي أربعةَ أضعاف ما يمكنُ أن تُنتِجَهُ مزارعُ الصنوبر النموذجيّةُ في ألمانيا. كما أنّ الأشجار المصريّة تكونُ جاهزةً للحصاد بعد 15 عاماً تقريباً، حيث تنمو في هذه المدة بما يكفي لإنتاجِ نحو 350 متراً مُكعّباً من الخشب في الهكتار الواحد، علماً أنّ إنتاجَ نفس الكميّة من الخشب من مزرعة الصنوبر الألمانية يستغرقُ حوالي 60 عاماً. أضف إلى هذه الإيجابيّات أنّهُ لا يوجدُ في الواقع بديلٌ آخرُ أفضل لاستخدام مياه الصرف الصحّي في مصر، وإذا استطاعت مصر استخدامَ 80% من مياه الصرف الصحّيّ لديها (التي تبلغ حوالي سبعةَ مليارِ مترٍ مكعّبٍ في السنة) لرعاية مزارع الأشجار، فيمكن عندها تسخيرُ ما يُقارب 650 ألفَ هكتارٍ من الصحراء المصريّة متر لإنتاج الخشب، ومن غيرِ الواردِ على الإطلاق استخدامُ مياه الشرب لهذا الغرض لكونها نادرةً ومُكلِفة.
بالإضافة إلى إنتاج الأخشاب فإنّ التشجيرَ من شأنه أنْ يوقفَ زحف الصحراء، إذ تشكّل الأشجارُ الحواجزَ الأكثرَ فاعليةً في وجه تمدّد الصحراء والتي أصبحت مشكلةً عالميةً في الوقت الحالي حيث تتوسع بمعدلِ 23 هيكتار في الدقيقة الواحدة على حسب تقديرات منظمة الأمم المتحدة للزراعة والغذاء. ويمكن لرعاية مزارع الأشجار باستخدام مياه الصرف الصحّيّ المعالجَة على مرحلتين، أن يكون أساساً لنموذجٍ للمشاريع التجاريّة في جزء واسع من العالم، ويمكن استخدامه لخلق فرص العمل المطلوبة بشدّة في المناطق القاحلة في جميع أنحاء العالم، وإعطاءِ الناس سبباً لعدم ترك بلدانهم.
ويمكن استخدام هذه الطريقة في دول شمال أفريقيا ومنطقة الساحل، وأجزاء من الشرق الأوسط وشبه الجزيرة العربية، وكذلك في البلدان ذاتِ الصحاري الواسعة والمناطق القاحلة كما هو الحالُ في أمريكا اللاتينية والصين. وقد أبدت الشركات الألمانيّة اهتماماً بإمكانيّات هذا النموذج التجاري، وقامت عدّة شركات ألمانيّة بالمشاركة في العمل البحثيّ في غابة السيرابيوم وتقوم بالتخطيط لمشروع زراعة الأشجار على نطاقٍ واسع في الصحراء المصريّة.
هل أعجبتكم الفكرة؟ وهل لديكم أفكارٌ أخرى للاستفادة من مياه الصرف الصحي بعدَ معالجتها؟. نتمنى أن تشاركونا رأيكم.
لرؤية المشروع على أرض الواقع يمكنكم مشاهدة الفيديو:
المصدر: