المعلوماتية > عام
تكنولوجيا التّخاطر والتّخاطب عن بعد
هل تمنّيت يوماً لو أنَّ بإمكانك جذبَ كأسٍ من الماء إليك بمجرّدِ التّفكيرِ به؟ إنّهُ لأمرٌ مثيرٌ أنْ تستطيعَ بثَّ أفكارِكَ وأوامركَ للأشياء من حولك، ولكنَّ الأكثرَ إثارةً أنْ تبثَّ أفكاركَ وتستقبلَ أفكار الآخرين عبر المسافات، أن تكونَ قادراً على معرفةِ مايدور في تفكيرِ صديقك،أو نقلِ أفكاركَ إلى شريككَ ومشاركةِ طفلكَ تفاصيلَ يومهِ الأوّلِ في المدرسة، وكلُّ ذلكَ دونَ أدنى اعتبارٍ للمسافاتْ.
للتعرّفِ على آليةِ تناقلِ الأفكارِ بينِ الدّماغِ البشريّ والآلة، أوحتّى بينَ الأدمغةِ البشريّةِ نفسها، لابدَّ أوّلاً من التّعرّفِ إلى بنيةِ الدّماغِ البشريّ وطبيعةِ الأفكارِ والنّشاطِ الدماغيّ المرتبطِ بها.
قراءةُ الموجاتِ الدّماغيّةِ وتفسيرها:
يتكوّنُ الجهازُ العصبيّ بمافيهِ الدّماغ بشكلٍ رئيسيٍّ من العصبونات، وهي الخلايا العصبيّة المسؤولة عن تناقلِ التّنبيهاتِ فيما بينها، حيثُ أنَّ كلَّ خليَّةٍ عصبيّةٍ تقومُ بنقلِ التّنبيهِ (السّيالة العصبيّةِ) إلى الخليّةِ المجاورةِ لها، مسبّبةً ارتفاعاً في كهربائيةِّ الخليّةِ المستقبلة، وهكذا ينتشرُ التّنبيهُ عبر الشّبكةِ الخلويّةِ العصبيّةِ الدّماغيّةِ مشكّلّاً نبضةً كهربائيّةً متزامنةً تُعرفُ بالموجةِ الدّماغيّة.
تختلفُ أشكالُ الموجاتِ الدّماغيّةِ تبعاً لطبيعةِ النّشاطِ الدّماغيّ المُسبّبِ لها، ويتمُّ تحديدُ خصائصها ومعرفةُ النّشاطِ الدّماغيّ المرتبطِ بها من خلالِ التّردّد الزّمنيّ للموجةِ ومطالاتها المختلفة (شكل اهتزازتها).
مثلاً تختلفُ أشكالُ الموجاتِ الدّماغيّةِ المُقاسةِ أثناءَ أطوارِ النّومِ المختلفة، ويتحدّد الطّورُ المقابلُ بناءً على شكلِ الموجةِ المُقاسة، في حين تختلفُ أيضاً أشكالُ الموجاتِ الدّماغيّةِ المُقاسةِ أثناءَ الأوضاعِ المختلفةِ من الوعي والصّحو، وكذلكَ أثناءَ الحركة أو التّفكيرِ أو ...، وبالمحصّلة فإنَّ لكلِّ نشاطٍ دماغيٍّ موجةٌ دماغيّةٌ مميّزةٌ مرتبطةُ به.
يتمُّ تسجيلُ الموجاتِ الدّماغيّةِ من خلالِ التّخطيطِ الكهربائيِّ للدّماغ، Electroencephalography- EEG
حيثُ تعتمدُ هذهِ التّقنية على تسجيلِ كهربائيّةِ الدّماغِ من خلالِ أقطابٍ كهربائيّةٍ موزّعةٍ في مناطقَ معيّنةٍ من الرّأس، وبناءً على شكلِ الموجةِ الكهربائيّةِ الملتقطْ يتمُّ تفسيرُ النّشاطِ الدّماغيِّ المقابلِ بواسطة برنامجٍ حاسوبيٍّ مخصّصٍ لهذهِ المهمّة.
التّخاطبُ البشريُّ-الآليّ، والتّحكّمُ بالآلاتِ عن طريقِ الأفكارِ البشريّة:
إنَّ تقنيّة EEG تعتبرُ حجرَ الأساسِ بالنّسبةِ لتقنيّةِ Brain Computer Interface- BCI، والّتي هيَ عبارة عن واجهة تخاطبيّة مابينَ العقلِ البشريّ والآلة، ظهرتْ أساساً لتعويضِ الإنسانِ في كثيرٍ من الأحيانِ عن فقدانِه بعض أو كلّ قدراتِهِ الحركيّة، حيثُ تتمُّ قراءةُ الموجاتِ الدّماغيّةِ للإنسانِ، وتفسيرِها وفهمِ النّشاطِ الدّماغيِّ الكائنِ وراءها، ومن ثمَّ يتمُّ تلقينُ الحركةِ أو النّشاطِ المرتبطِ بالموجةِ الدّماغيّةِ المُقاسةِ إلى روبوتٍ -غالباً- يعملُ كمساعدٍ شخصيٍّ مسؤولٍ عن تنفيذِ المهامِ المطلوبةِ وتعويضِ الإنسانِ عن قدرتهِ المفقودة بالاستجابةِ لأفكاره.
للمزيدِ عن تقنيّةِ BCI وتطبيقاتها:
التّخاطبُ والتّخاطرُ البشريُّ عبرَ المسافات:
بعدَ أن تمكّنَ الباحثونَ من تفسيرِ النّشاطِ الدّماغيِّ البشريِّ وتحويلِهِ إلى أوامرَ حاسوبيّة يتمُّ تلقينَها إلى روبوتٍ مساعٍد، بدؤوا بالتّفكيرِ في الذّهابِ أبعدَ من ذلك، ماذا لو استطاعوا تلقينَ هذه النّشاطاتِ وزرعَهَا في دماغٍ بشريٍّ آخر؟
إنَّ طبيعةَ الدّماغِ تسمحُ -بالإضافةِ إلى إرسالِ الإشارات- باستقبالِ نبضاتٍ كهربائيّة، وبالتّالي استقبال نشاطٍ دماغيٍّ من خلالِ تقنيّةِ التّحفيزِ المغناطيسيّ عبرَ الجمجمة Transcranial Magnetic Stimulation- TMS.
تعملُ تقنيّةُ TMS على خلقِ مجالٍ مغناطيسيٍّ معيّن حولَ الجّمجمةِ، ممّا يسبّبُ تولّدَ تيّارٍ كهربائيٍّ داخلَ الدِّماغِ بالشّكلِ المطلوب. مثلاً عندما يتمُّ توليدُ الموجاتِ المغناطيسيّةِ في منطقةِ القشرةِ الحركيّة، سيتمُّ عندها استثارةُ وتفعيلُ المساراتِ العصبيّةِ الحركيّةِ، ممّا يؤدّي إلى حركةِ الأطرافِ، اليد أوالقدم أو الإصبع وذلكَ حسبَ شكلِ الأمواجِ الّتي تمّ توليدّها.
إنَّ استخدامَ تقنيّتي EEG لقراءةِ الموجاتِ الدّماغيّةِ وتفسيرها، و TMS لتوليدِ الموجاتِ الدّماغيّةِ وتلقينها، كانَ العاملَ الأهمَّ في إمكانيّةِ عمليّةِ التّواصلِ البشريِّ عن بعد، من خلالِ تقنيّةِ Brain To Brain Interface- BBI والّتي هيَ واجهةٌ تخاطبيّةٌ مابينَ دماغَينِ بشريَّينِ، وتعتمدُ على شقَّينِ أساسيّين:
1-تسجيلُ الموجاتِ الدّماغيّةِ للشّخص A، وتفسيرها وترجمتها عبر الحاسب.
2-إعادةُ توليدِ النّشاطِ الدّماغيِّ المسجّلِ في القشرةِ الدّماغيّةِ للشّخص B من خلالِ تقنيّةِ التّحفيزِ المغناطيسيّ.
مرّت تقنيّةُ BBI في عدّةِ تجارب، إحداها كانَت على مجموعةٍ من القرود، وأخرى على مجموعةٍ من القوارض، وتجربةُ تحريكِ ذيلِ القارضِ من خلال أفكار إنسان، بالإضافةِ إلى تجربةٍ ناجحةٍ لنقل النّشاطِ الدّماغيِّ بين كائنَينِ بشريَّين، حيثُ تمَّ وبنجاحٍ نقلُ النّشاطِ الدّماغيِّ المرتبطِ بتحريكِ اليدِ من دماغِ المتطوّعِ الأوّلِ، وتوليدِه في دماغِ الآخرِ الّذي قامَ بالفعلِ بتحريكِ يدِهِ وعنْ بعد، اعتماداً على تقنيّتي EEG و TMS المذكورتين آنفاً.
وكانت آخرُ وأهمُّ التّجاربِ النّاجحةِ هيَ تجربةُ نقلِ الأفكارِ العقليّةِ بينَ شخصَينِ أحدُهما في الهند والآخر في فرنسا، حيثُ تلّخّصت التّجربةُ في الخطواتِ التّالية:
- تمَّ الاتفاقُ على كلماتٍ معينة وترميزها بترميزٍ ثنائيٍّ موافق، مثلاً (1 = “hola”= 0 ، “ciao”)
- تمَّ الاتفاقُ على أن يفكّرَ الشّخصُ الأوّل في إحدى الكلمتين، بينما يتولّدُ لدى الشّخص الآخر إحساسٌ برؤيةِ وميضٍ معيّنٍ يختلفُ حسبَ الكلمةِ الّتي فكّرَ فيها المتطوّعُ الأوّل.
- كان الشّخص A يفكّر في إحدى الكلمتين 0،1 ليتمَّ تفسير وفهم نشاطه الدّماغيّ ونقلِ مافكّرَ بهِ عبرَ الإنترنت إلى الطّرفِ الآخر.
- في الطّرفِ الآخر كانَ يتمُّ تحفيزُ المنطقةِ البصريّةِ للشّخص B ليتمَّ توليدُ إحساسٍ برؤيةِ وميضٍ معيّن يرتبطُ بالكلمةِ الّتي فكّر فيها الشّخص A.
- بناءً على أجوبةِ الشّخص B عن طبيعةِ الوميضِ الّذي شعرَ برؤيتهِ، ومقارنتها بما فكّر به الشّخص A تمَّ إثباتُ نجاحِ التّجربة، فقد كانتِ النّتائجُ متوافقة.
قدْ يخطرُ للبعض أنَّ مثلَ هذهِ التّقنيةِ لها العديدُ من الآثارِ الأخلاقيّةِ والقانونيّة، لذا من المهمِّ التّأكيد على أنَّ نجاح عمليّةِ نقلِ الأفكارِ العقليّة ارتبطَ بالوعي لدى طرفيِّ التّجربة، واعتمد على الاتّفاقِ المُسبقِ على لغةٍ تخاطبيّةٍ وترميزاتٍ معيّنة.
إنَّ تقنيّة BBI بمختلفِ مراحلِ تطوّرِها سيكونُ لها إمكانيّات وآثار هائلة على طريقةِ التّواصلِ المسقبليّةِ بين البشرِ أنفسِهم أو حتّى بين البشرِ والحيواناتِ المختلفة، من خلالِ نقل الأفكارِ بشكلٍ مباشرٍ حتّى عبرَ المسافات، وقد تسهمُ تقنيّةُ BBI مستقبلاً في أساليبِ العلاجِ السّلوكيِّ النفسيّ، أو تعليمِ المهاراتِ الحركيّةِ للأطفال، أو حتّى التّحكم عن بعد بالرّوبوتات على الكواكبِ المختلفة.
المصدر: