كتاب > روايات ومقالات
مراجعة رواية (متشرداً في باريس ولندن)
رواية "متشرداً في باريس ولندن" لجورج أورويل أو إيريك أرثر بلير، هي أول عمل أدبي قدمه جورج أورويل في رحلته الأدبية، تعتبر الرواية ذكريات أورويل نفسه بعد عودته من بورما كضابط شرطة، ليعيش عامين في كل من باريس ولندن مليئة بالفقر والتشرد والضياع والجوع.
يتألف بناء رواية متشرداً في باريس ولندن من جزئين أو محطتين، الأولى في باريس حيث يغلب على أسلوب الكاتب الحس الفكاهي نوعاً ما بالرغم من وصفه الدقيق لحال البؤس الواقع في ذلك الجزء من العالم في ذلك الوقت حين يعمل في مهنة غاسل الصحون، ويتميز هذا الجزء بالقدرة الأدبية لأورويل في رسم صورة حقيقية مليئة بالألوان والأنغام عن حالة التشرد في مدينة النور. والجزء الثاني هو في مدينة الكاتب لندن، حيث وبحسب وصفه يعمل متسولاً ويتميز هذا الجزء بوضوحة وتعابيره المباشرة والسوداوية كضبابية مدينة لندن.
جورج أورويل الذي قد تكونوا عرفتموه من روايته 1984 ناقدا ً للنظام الاشتراكي نجده في هذا الكتاب يواجه ويُدين ضعف مجتمعه بنظامه الرأسمالي لا يخشى أن يعريه، يغمس أصبعاً في عمق الجرح اذا كانت الغاية إخراج الشظايا.
تبدأ الرواية في شارع من شوارع باريس حيث ضجيج العراك والسِباب هو أمرٌ شبه دائم ممزوجٌ أبدًا بروائح الفقر والجريمة. هناك يسكن في نزل صغير مُهدَّداً بسبب فقره هو وكل النزلاء بالطرد والتشرد. يشاركه أزمته صديقه الروسي بوريس الجندي السابق في الجيش. يتقاسمان آخر الفرنكات ويجوبان شوارع باريس يعقدان صفقات رهن الملابس. ولكن هذه الصفقة اليائسة الصغيرة حتى فد تكون في وقت رابحة فتنقذهما لعدد قليل من الأيام من التشرد، وتشتري لهما خبزاً وخمراً لسد الرمق، وفي أوقات أخرى تكون خاسرة فيعودان لنقطة الصفر حيث ينتظرهما الجوع. هذا الجوع هو عدو الكاتب بكامل رحلته في هذه الرواية. يبذل أيامه وعواطفه وكامل قدراته ليصارعه. يبقى هذا هدف الحياة الوحيد ومركز تفكير كل المشردين والمتسولين.
لتجربة الجوع نجد في هذه الرواية أوصافًا دقيقة ترسم مشهدا يسكنك ولا يغادرك بسهولة. "الجوع يحط من حول المرء حتى يغدو بلا حول ولا عقل. إنه أشبه بعقابيل الإنفلونزا منه بأي شيء آخر. الهمود الكامل هو ما أتذكره بصورة رئيسة عن الجوع. الهمود والاضطرار إلى البصاق كثيرا ً".
من المنطقي في هذه الظروف اللاإنسانية من الحياة أن يجد الكاتب في مهنة غاسل الصحون طوق النجاة، إلا أن العمل تحت طبقات الأرض لساعات غير منتهية بأجر يكفي فقط لأن يبقيه على قيد الحياة هو شكل من أشكال الرق والعبودية لا غير، وعذاب بحد ذاته من نوع آخر. يدفع هذا بالكاتب للتساؤل عن ضرورة عمل غاسل الصحون للحضارة؟ من الذي يسعى أن يبقي على هذه المهن التي تستعبد الإنسان؟ من يجب أن يدافع عنهم إذا كانوا لا يملكون صوتا ليرفعوه في وجه من يظلمهم ولا حتى وقتا لأن يفكروا بأي شيء؟
ثم تأتي مرحلة العودة إلى لندن على أمل فرصة هرب إلى ريفها في هيئة فرصة عمل، ليسخر منه حظه مرةً أخرى ويرمي به في شوارع هذه المدينة وملاجئها المؤقتة (السبايكات). يدفعه هذا إلى حرب جديدة مع عدوه القديم/الجوع . لم يألف هذا الجانب من لندن كما لم يألف ساكنيه. في شبه ملابس وشبه مساكن وشبه نوم يقضي شبه حياة فيها كمتشرد.
شاي وقطعتا خبز وزبدة تثير النشوة وتعيد الحياة لعروقه. يبحث عنها في كل مكان مع صديقه الجديد الإيرلندي بادي الذي يكشف له أسرار النجاة في هذا المكان من الأرض، دون أن ينسى تقاسم كسرة الخبز الأخيرة معه.
يرى إعلان الكنائس من بعيد تعظ بالرحمة. في الحقيقة يبدو الوعظ كلاماً أحمقاً إن لم يكن مقروناً بفعل المحبة والرحمة، فلا يبدوا على الوعاظ ورجال الدين أنهم يفهمون أن الإنسان وإن كان ينتظر الحياة الآخرة فهو لايزال عليه أن يعيش هذه الحياة. فهل تُشبع الصلاة المعدة الفارغة؟
"وانت يا ولدي كم مضى عليك منذ أن ركعت وتكلمت مع أبينا الذي في السماوات؟" الفتى البائس لم بنبس ببنت شفة، لكن معدته أجابت بقرقعة لمرأى الطعام وهكذا غلبه الخجل". هذا هو الحوار الذي دار بين المرأة المؤمنة والرجل المتسول الجائع. أتساءل عن نوع الحوار الممكن أن نسمعه بينها وبين غني من أغنياء لندن.
أما البحث عن صديق بادي، المتسول بوزو، واللقاء به، كان له وقع خاص . إن بوزو هذا متشرد وفنان متسول. أو كما يحب أن يدعو نفسه: رسام رصيف جاد. لديه عجز في ساقه، لكن العجز لم يعرف طريقاً إلى قلبه. يملك القدرة على أن يعيش عالمه الخاص بين النجوم. وفي الفن بالتأكيد لديه فلسفته الخاصة. لا يملك شيئاً من ثروات هذا العالم وتجده يفرد ضحكة في وقت اليأس. شخصٌ جدّ استثنائي. ولا يملك الإنسان إلا أن يحبه.
تغزو فكر الكاتب الباحث تساؤلات: لماذا يُحتقر المتسولون؟ ماهو اختبار الفضيلة الذي لم ينجحوا به؟ هل هم من غير فصيلة أم أنهم بشر عاديون مثلنا؟ أي خيار قاموا به فأودى بهم إلى هذه الحياة الطفيلية؟
في نهاية روايته أورد الكاتب حلولا ًبرأيه لحال هؤلاء المنسيين. أورد خططاً عملية وقابلة للتطبيق في تشغيل مشردي لندن بمزرارع تتواجد في السبايكات التي لا بأس في أن تكون ملاجىء مؤقتة، ولكن لوقت أطول من يوم واحد، كما كان القانون الجاري. إن المشردين والمتسولين الذين كانوا بأغلبهم من الرجال هم طاقة غير مستغلة لا يستهان بها، سحقها نظام البلد الرأسمالي سحقا دون رحمة، ولا يرغب في أن ينظر إليها بل ويشمئز لوجودها. نظامٌ يمجد كثيراً أصحاب الثروات فيزيد ثراءهم. وطبعاً من غير المنطقي برأيه أن نبقي على مهنة في مجتمعنا كمهنة غاسل الصحون، التي تجسد الرق في العهد الجديد. إن رؤية جورج أورويل للفقر وتحليله لها وحلوله العملية ليست مجرد نظرة فلسفية بعيدة قائمة على التنظير، ولكنها رؤية عميقة قائمة على صلب تجربة شخصية امتدت لعامين متتالين في العالم الآخر لمدن الرأسمالية الأشهر باريس ولندن. وريما هذا ما دفع هذا العمل الأدبي لأن يكون أهم أعمال أورويل الأدبية الواقعية البعيدة عن العبارات التخيلية.
إن هذه رواية تحكي عن تجربة مغيرة للحياة، لحياة الكاتب الذي يعترف في نهاية روايته وبعد تعهدات يقطعها على نفسه بتغيير حياته ورؤيته للمشردين وللمطاعم الفاخرة ويقول "أنها البداية فقط". إن العالم الذي يصفه جورج أورويل ليس بالحسن مطلقا. إنه قذر ومخيف ومقيح وقبيح. عالم قد لن تتسنى لك فرصة رؤيته إلا من خلال هذا الكتاب.
معلومات الكتاب:
اسم الكتاب: متشرداً في باريس ولندن
المؤلف: جورج اورويل
المترجم :سعدي يوسف
دار النشر:المدى
عدد الصفحات:٢٣٢
سنة النشر:1933