البيولوجيا والتطوّر > علم المورثات والوراثة
مفاجأةٌ جديدةٌ للبكتيريا وهذه المرة في التطور
نعتقد جميعاً أنَّ المادةَ الوراثية -في العملية التطورية- تنتقل من الآباء إلى الأبناء، وبهذا الانتقال يصبح التقدمُ في التطور أكثر تعقيداً، ولكن هناك طرقٌ أخرى لنقل المواد الوراثية بين الكائنات، ففي بعض الأحيان يُمكن لكائن حيٍّ مضيف (عائل) أن يحصلَ على مورثاتٍ من كائنٍ آخرَ يعيش ضمن خلاياه. وتعرف هذه العلاقة الغذائية بالتعايش الداخلي، إذ يُمكن أن يحدثَ ما يُسمَّى نقل الجينات التعايشي (endosymbiotic gene transfer) وفي أحيان أخرى، يُمكن للكائن أن يحصلَ على مورثاتٍ من كائنٍ يعيش حوله ضمن بيئته، أو من خلال شيءٍ يأكله، وهذا ما يُسمى بالنقل الأفقي للجينات (horizontal gene transfer) ، ولكن من ناحيةٍ أخرى، يُمكن أن ينتجَ عن بعض مستويات هذا النقل نقصٌ كبيرٌ في المورثات، وبالتالي نقصٌ في جينوم الكائنات التي ترتبط بالعائل بعلاقة التعايش، وتعيش من خلالها في خلايا كائن آخر هو العائل أو المضيف. وللمرة الأولى يثبت الباحثون أنَّ النقلَ الأفقي للجينات يُمكن أن يؤديَ دوراً أساسياً في التعويضِ عن النقل الجيني الناتج عن عملية "نقل الجينات التعايشي الداخلي"، ويمكن أن يكونَ ذلك سمةً ذاتَ دلالةٍ هامةٍ في النقل التطوري، إذ يتحول فيها كائنُ التعايش الداخلي، إلى مجرد عُضيةٍ توجد داخل خلايا العائل، وتؤدي وظيفةً محددةً.
وكمثالٍ على ذلك: العُضياتُ المتخصصة بالبناء الضوئي التي تُسمَّى البلاستيدات الخضراء التي توجد في خلايا النباتات والطحالب وتقوم بعملية تصنيع السكر وتحويله إلى نشاءٍ أو زيوت، وقد نشأت هذه العُضية منذ أكثر من مليار سنة عندما ابتلع مضيفٌ من الكائنات الأولية البكتريا القادرةَ على البناء الضوئي التي تُعرف باسم البكتريا الزرقاء (cyanobacterium) وتبع ذلك نقصٌ كبير في مورثات البكتريا الزرقاء –إذ نُقل بعض هذه الجينات عن طريق عملية نقل الجينات التعايشي إلى نواةِ الخلية المضيفة- في حين أنَّ بعضها الآخر كان قد فُقِد تماماً، وهنا لا بدَّ من السؤال التالي: كيف يُمكن لخلايا العائل أن تعوّضَ النقصَ الحاصل في مورثات البكتريا الذي يترافق مع نقصِ العديد من جينات سلاسل التفاعلات الأنزيمية التي تدخل ضمن التركيب الحيوي للعديد من المركبات الأساسية الضرورية، ولكنَّ الإجابةَ كانت جزئيةً في هذا المجال.
ومن خلال هذه الدراسة تمَّ التوصُّل إلى نتائجَ مذهلةٍ تُسلِّطُ الضوءَ على تحوّل إحدى الكائنات وحيدة الخلية Paulinella chromatophora (الصورة أدناه) من خلال عملية نقل الجينات التعايشي التي مكَّنتها من استخدام الأصبغة الخضراء. يقولُ أحد الباحثين إنَّ النقصَ في المورثات الخاصة ببناء عُضيات عملية البناء الضوئي عند Paulinella chromatophora التي تُسمى chromatophore قد عُوِّضَ من خلال ابتلاعِ البكتريا التي تعيش في الوسط المحيط، ونقلِ جيناتها إلى النواة التي بدورها أسهمت في بناء البروتينات الخاصة بعُضيات البناء الضوئي، وبهذه الطريقة عُوِّضَ النقصُ الموجود في الجينوم.
صورة مجهرية لوحيد الخلية Paulinella وتظهر عُضَيّة البناء الضوئي باللون الأخضر
ويوضح مُعدُّ هذه الدراسة أنَّه قد حُصِلَ على 229 مورثةً على الأقل من مورثات الخلية Paulinella chromatophora الموجودة في النواة من أنواعٍ متعددةٍ من البكتريا، في حين أنَّ مصدر ما نسبته 25% فقط هو البكتريا الزرقاء ويُمكن أن يكونَ قد نُقِل عن طريق النقل الجيني التعايشي. والمميز أنَّ ما تبقى من هذه الجينات اكتُسِب عن طريق عمليات النقل الجيني الأفقي من مورثات تعود لأنواع مختلفةٍ من البكتريا، والكثيرُ من هذه الجينات البكتيريِّة التي نُقلت تنتِجُ بروتيناتٍ تملأ أماكنَ محددةً على الأصبغة الخضراء ولها دورٌ في إتمام العمليات الحيوية، وكنتيجة لذلك حصل نقصٌ في جينات أصبغة البكتريا الخضراء نتيجةَ النقص العام في الجينوم، وتقترح الدراسة أنَّ تعويضَ هذا النقص كان من خلال عملية النقل الأفقي للجينات.
ولمزيد من الأدلة، وجد الباحثون أنَّه لم يكن لدى أسلاف Paulinella chromatophora أيُّ أصبغةٍ خضراءَ بل كانت تتغذى على مجموعةٍ متنوعةٍ من البكتريا، ما يُشبه إلى حدٍّ كبير ما تقوم به كريات الدم البيضاء التي تهاجم البكتريا. وفي هذا العمل الجديد وبفرض أنَّ هذه الطريقة من التغذية التي تُسمَّى البلعمة قد تسمح باكتساب جيناتٍ بكتيرية مختلفةٍ عن طريق النقل الأفقي للجينات، تكون هذه الطريقة قد سهلت عمليةَ اختيار الجيناتِ البكتيريِّة، وبذلك أصبحت البكتريا الزرقاء مقيماً دائماً داخل الكائن الذي بلعمها في المراحل الأولى من تطور الأصبغة الخضراء.
وفي النهاية أصبح بمقدورنا تعليلُ وجود الأصبغة الخضراء عند بعض الأوليات وغيابها عند البعض الآخر؛ فبعضُها اختارَ طعامه بعنايةٍ واستفاد من مادته الوراثية، وأدخلها ضمن جينومه الخاص ليصبحَ في النهاية قادراً على تر كيب غذائه بنفسه حتى ولو بشكل جزئي، ويجب علينا أيضاً أن نُقدّرَ دورَ البكتريا المُهم الذي أسهم في حصول هذا التطور.
المصدر: هنا
الورقة البحثية: هنا