الاقتصاد والعلوم الإدارية > موارد بشريّة
دروس في القيادة من الشركات العائلية العظيمة (الجزء الأول)
لا يخفى على أحد أن المؤسسات العائلية تواجه تحدّيات جمّة في مجالات الحوكمة، والانتقال في القيادة من جيل إلى جيل. وحتى في البقاء كشركة مربحة على مدى طويل من الزمن. ولفهم هذه التحديات نأخذ بعض الأمثلة البارزة
- بنك اسبيريتو سانتو Banco Espírito Santo وهو مؤسسة عائلية، تمّ إنقاذها من قبل الحكومة البرتغالية العام الماضي بعد استقالة رئيسها التنفيذي، الحفيد الأكبر لمؤسس البنك، وسط مزاعم بحدوث مخالفات ماليّة.
- مجموعة الدوسان العائلية The Doosan Group وهي مجموعة شركات كوريّة جنوبيّة، عمّت بها الفوضى عندما استبدل الملّاك أحد الأخوة بالآخر في منصب الرئيس التنفيذي.
- مجموعة فيات Fiat الإيطالية لصناعة السيارات والتي يديرها ورثة جياني اغنيللي Gianni Agnelli، بدلّت خمسة رؤساء تنفيذيين وثلاثة رؤساء مجلس إدارة خلال العامين الماضيين قبل أن يتمّ ترشيح شخص من خارج العائلة ليقود المجموعة.
- كما واجهت سلسلة ماركت باسكت (مؤسسة عائلية) Market Basket في الولايات المتحدة إضرابات متعددة للموظفين مما أدى لخسارة قدرها 583$ مليون دولار أمريكي في المبيعات خلال الصراع العلني للسيطرة على الشركة بين أبناء العمومة من أحفاد المؤسس ( أحدهما عضو مجلس إدارة، والآخر رئيس تنفيذي).
وعلى الرغم من التحديات فقد سمعنا أيضاً عن قصص نجاح العديد من الشركات العائليّة وعن قصص التفاهم والعلاقة الصحيّة بين أفرادها على المدى الطويل. لكن هذه القصص تبقى هي الاستثناء للقاعدة. فطبقاً لمعهد الشركات العائليّة، فإنّ 30% فقط من هذه الشركات تنجح بالاستمرار إلى الجيل الثاني بينما تبقى 12% مستمرة للجيل الثالث. ويعمّر ما نسبته 3% للجيل الرابع وما بعده. وحتى تلك الشركات التي تستمر غالباً ما نرى قيمتها تتهاوى بشكلٍ كبير كلما تغيّرت القوى المسيطرة في أعلى الهرم الإداري.
قام البروفيسور في الجامعة الصينيّة في هونغ كونغ جوزيف فان Joseph Fan بتتبع أداء الأسواق المتعلق ب 214 شركة عائلية في تايوان، هونغ كونغ، وسنغافورة. ووجد أنّ قيمة أسهم هذه الشركات تراجعت بقيمة تقارب 60% في الأعوام الثمانية التي أحاطت بتغيير الرئيس التنفيذي في كل شركة.
القادة في الشركات العائلية دائماً ما يعترفون بالمشكلة. قام البروفيسور بوريس غرويزبرغ Boris Groysberg من كلية إدارة الأعمال في جامعة هارفارد بالاشتراك مع الباحثة ديبرا بيل Deborah Bell باستبيان للآراء حول هذه الشركات. وكان من اللافت قيام المدراء في مجالس إدارة الشركات العائليّة بتقييم عملهم بشكلٍ أقل بكثير من نظرائهم في الشركات غير العائلية، وبخاصة فيما يتعلق بإدارة المواهب. وقد قال أقل من 10% بأن شركاتهم فعّالة في مجالات جذب وتوظيف والحفاظ على الموظفين، والحفاظ على تنوع القوى العاملة.
ومع ذلك، تقوم الشركات المملوكة من عوائل أو الشركات العائليّة بدور رئيسي في الاقتصاد العالمي. حيث تمثّل الشركات العائلية ما يقارب 80% من كامل عدد الشركات العالمي والثقل الرئيسي للتوظيف طويل الأجل في أغلب البلدان. توظف الشركات العائلية في الولايات المتحدة 60% من القوى العاملة وتخلق 78% من مجمل الوظائف الجديدة. كما أنّها تشكّل ثلث الشركات المسجلة في مؤشر الشركات S&P 500 و تشكل 40% من أكبر 250 شركة في فرنسا وألمانيا، وأكثر من 60% من الشركات الكبيرة في شرق آسيا وأمريكا اللاتينية. إذاً فالشركات العائلية ليست متجراً صغيرا للأب والأم!! يملك أفراد الأسر المالكة لهذه الشركات حصصاً كبيرة من الأسهم مما يؤثر على العديد من قرارات الشركة المهمة، وبخاصة تلك المتعلقة بانتخاب رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي.
وعليك أن تتخيل كم سيكون مفيداً لو أنّ أكثر هذه الشركات استطاعت أن تتقن فنّ إدارة الأفراد، والقيادة والتطوير، وسياسات التعاقب الوظيفي. لكن كيف لها أن تحقق ذلك؟ على هذه الشركات التعلّم من الشركات الناجحة. لكن من هي هذه الشركات الناجحة؟ أهي الشركات التي تملكها عائلة كبيرة؟ أم أنها الشركات التي تسيطر عليها وتنظمها عائلة ما مما جعلها ناجحة لعقود إن لم يكن لقرون؟
بعد استشارة البروفيسور Sabine Rau من كلية King’s College في لندن، قامت شركة Egon Zehnder بالتشارك مع شبكة الشركات العائلية الدولية بدراسة أفضل 50 شركة عائلية. كل شركة من هذه الشركات تتخطى عوائدها مبلغ 500 مليون يورو سنوياً، وتمثّل هذه الشركات مجتمعةً كافة الصناعات الرئيسيّة في الأمريكيتين وأوروبا وآسيا.
على الرغم من بعض الاستثناءات المحدودة المتعلقة بالحوكمة والتعاقب الوظيفي في الإدارة العليا، تقدم أغلب هذه الشركات دروساً هامة في عظمة القيادة للشركات العائليّة. من خلال مقابلاتنا مع المدراء التنفيذيون في هذه الشركات، سواء من العوائل المالكة أو من خارجها اكتشف الباحثون عدداً من الممارسات المتميّزة. حيث أنّ الشركات العائلية الناجحة اشتركت فيما بينها بالنقاط التالية
- تأسيس نظام حوكمة جيد.
- الحفاظ على "ثقل" العائلة.
- تحديد وتطوير المهارات سواء من داخل العائلة أو خارجها.
- التعامل بحزم مع التعاقب الوظيفي في الادارة العليا.
تأسيس الحوكمة
لا تستطيع الشركات العائلية أن تدير المهارات داخل الشركة (سواء ضمن العائلة أو خارجها)، أو أن تجذب الموظفين ذوي المهارات العالية من غير تأسيس أنظمة حوكمة جيدة، أو بدون أن تفصل بين العائلة وبين العمل في الشركة، أو بدون أن تضمن وجود مجلس إدارة كفء وقادر على الإشراف وتنفيذ ضوابط الحوكمة. فحتى ضمن أفضل الشركات في الدراسة، صرّح أكثر من ربع المدراء التنفيذيين من خارج العوائل المالكة للشركات بتخوّفهم من أمورٍ متعلقة بالحوكمة داخل الشركات قبل أن يتخذوا قراراً بالعمل لدى شركتهم الحاليّة.
يتخوّف المدراء التنفيذيون من خارج العائلة من مواضيع تتعلق باستقلالية القرار، الخطط والمصالح الخفيّة، قلة المرونة، محاباة وتفضيل الأقارب والقرارات غير المنطقيّة. يقول الرئيس التنفيذي لصندوق استثمار بريطاني: " لو شعرت بأن العائلة هي التي تدير الشركة عوضاً عن الإدارة بطريقة مهنية، وبأني لست مستقلاً في اتخاذ القرار، فإن ذلك سيمنعني العمل في هذه الشركة بشكلٍ قاطع". كما أفاد الرئيس التنفيذي لشركة تجارية أمريكية بأنه تريث كثيراً قبل توقيع العقد، وذلك للتأكد من تعامل الشركة بطريقة عادلة مع الموظفين فيما يتعلق بتكافؤ الفرص والتطور الوظيفي وفرص النمو.
فقط عينة صغيرة من الشركات التي تمّت دراستها لم يكن لديها مجلس إدارة استشاري أو تنفيذي. ولكن تلك الشركات مملوكة بالكامل من قبل العائلة، كما تقوم بعض تلك الشركات بدراسة وجود هيكل إشرافي مستقل في المستقبل. في المقابل، تتم إدارة 94% من الشركات العائليّة الناجحة من قبل مجالس إدارة استشارية أو إشرافية تتألف من تسع أشخاص بشكلٍ وسطي. تراوح تمثيل العائلة في مجالس الإدارة بين 46% في الشركات العائليّة الأوروبيّة، 28% في الشركات العائليّة الأمريكيّة، و26% في الشركات العائليّة الآسيوية. وحتى في هذه الشركات فإنّ الفصل بين الشركة والعائلة يتمّ بشكل واضح. " لدينا هيكل ونظام حوكمة رسمي يحدد الصلاحيات" يقول الرئيس التنفيذي (من خارج العائلة) لإحدى الشركات التجارية العائلية المعروفة في بريطانيا. كما يشرح الرئيس التنفيذي لإحدى الشركات الأمريكية التي تعمل في مجال تصنيع المواد عالية الجودة أهم السياسات في الشركة :" لدينا مجلس إدارة إشرافي، وكل فرع من العائلة يُسمح له بتسمية شخصٍ واحد للمجلس، إلا إذا كان فرع العائلة ممثلاً في الإدارة فلا يحق لهم إرسال شخصٍ آخر. وفي مقابل كل شخص من العائلة في مجلس الإدارة، يتم تسمية شخص من خارج العائلة في نفس المجلس".
نظام الحوكمة الجيد هو العقبة الأولى التي تواجه الشركات العائليّة التي ترغب بتوظيف أفضل الكفاءات والمحافظة على المواهب وضمان استمرارية النجاح لفترة طويلة. الالتزام بسياسات وصلاحيات اتخاذ القرار هو الأمر المحوري، سواء إن كانت هذه الشركات مساهمة عامة، أم مملوكة جزئياً من قبل مجموعة مستثمرين (صناديق استثمارية)، أو مملوكة بالكامل من قبل العائلة.
و سنقوم عزيزي القارئ بالتحدث عن باقي النقاط في الجزء الثاني من هذا المقال.
المصادر