البيولوجيا والتطوّر > علم المورثات والوراثة
سبب محتمل للإصابة باضطراب التوحّد
يُشار إلى اضطراب طيف التوحّد (Autism Spectrum Disorder، ASD) على أنّه مجموعةٌ واسعة من الاضطرابات العصبية المعقدة التي تؤثر في عملية نموّ وتطوّر الجهاز العصبي المركزي (اضطرابات عصبية تنموية)، وينتج عنها ضعف في القدرة على التواصل والتفاعل الاجتماعي، إذْ تظهر الإصابة به عادةً خلال مراحل مبكّرة من عملية التطوّر وقبل مرحلة البلوغ. وتقدّر نسبة الإصابة بالتوحّد في الولايات المتحدة بما يعادل 1 لكلّ 68 طفلاً (1.47%) تبعاً للتقرير السنوي الذي نشرته عامَ 2014 مراكزُ مراقبة الأمراض والوقاية (Centers for Disease Control and Prevention; (CDC)). ويعدّ الذكور أكثرَ عرضةً للإصابة به من الإناث (كلّ 1 أنثى مصابة يقابلها 4 ذكور مصابين)، ويعتمد العلاج غالباً على التدخّلات السلوكية المصحوبة بتمارين ودروس متخصّصة تهدف لرفع مستوى مهارات التواصل، والتقليل من مظاهر العجز الاجتماعي واللفظي والمعرفي أيضاً.
وقد أشارت الأبحاث السابقة إلى أنَّ الإصابة بالتوحّد يمكن أن تحدث نتيجة وجود خلل وظيفي في عمل الميتوكوندريا، لكنْ بالرغم من ذلك يبقى الأساس البيولوجي لهذا الارتباط غيرَ واضح المعالم، فجميع الأبحاث التي أجريتْ قد اقتصرت في دراساتها على إدراج عيّناتٍ ذات أحجام صغيرة، كما أنّها لمْ تستطع أنْ تؤكّد فيما إذا كان المسبّب الرئيس لوجود هذه الصلة هو العامل الوراثي أم البيئي.
أمّا الدراسة الحالية، فقد تمكّن فيها باحثو جامعة كورنيل الأمريكية من إثبات وجود صلة بين الحمض النووي الميتوكوندري (mtDNA)، الذي تورثه الأمّ، وبعض أشكال اضطراب طيف التوحّد.
الجديد الذي أتت به الدراسة الحالية، التي نُشرت في مجلّة بلوس علم الوراثة (PLOS Genetics)، هو تحليل الحمض النووي للميتوكوندريا في 903 أسرة، عزل فيها الباحثون mtDNA من كلّ من: الأطفال المصابين بالتوحّد، وإخوتهم (غير المصابين)، وأمّهم، وقارنوا فيما بينهم، فكانت النتائج كما يلي: في حالة الأطفال غير المصابين، ضمّت الخلية كلا النوعين من الحمض النووي الميتوكوندري، السليم والمصاب بطفرة، وسمّيت هذه الحالة بالبلاسما غير المتجانسة heteroplasmy، فقد ظهرت في خلايا الأطفال أعداد متماثلة من mtDNA المصاب بطفرة وغير المصاب على حدّ سواء، إلّا أنَّ الفارقَ كان في خلايا الأطفال المصابين بالتوحّد، إذْ احتوت خلاياهم على mtDNA مصابٍ بطفراتٍ ضارّةٍ، بما يزيد عن ضعف ما هو عليه في خلايا أشقّائهم غير المصابين.
يقول تشنغ لونغ غو (Zhenglong Gu)، البروفيسور المساعد في علوم التغذية، والكاتب الأرشد المشارك في إعداد الورقة البحثية: "عند إجراء المقارنة الوراثية بين الأمّ والأطفال، استطعنا التأكّد من وجود صلة بين حدوث خلل في الحمض النووي الميتوكوندري والإصابة بالتوحّد، إذْ تبيّن أنَّ الأطفال المصابين بالتوحّد قد ورثوا -خلالَ عملية تمرير الحمض النووي الميتوكوندري- من أمّهاتهم طفراتٍ أكثر، مقارنةً بأشقّائهم الذين شخّصوا على أنّهم غيرُ مصابين."
تحمل معظم الخلايا البشرية نسختَين من الحمض النووي ال DNA، نسخة واحدة من كلّ من الوالدين، ومئات النسخ من ال mtDNA. يوجد ال mtDNA في عضية يُطلق عليها الميتوكوندريون (الصيغة المفردة من ميتوكوندريا)، وتعدّ المصدر الرئيس الذي يمدّ الخلية بالطاقة. بغضّ النظر عن الجينوم النووي الموجود داخل نواة الخلية، فعضية الميتوكوندريون هي العضية الوحيدة التي تحتوي على حمض نووي. إنَّ الحمض النووي الميتوكوندري mtDNA أكثرُ عرضةً للإصابة بطفرات، إذْ يمكن أن يصاب بها بشكل أسرع مقارنةً بالحمض النووي DNA الموجود في النواة. الأمر الذي دفع "غو" للبحث في الأمراض التي لها صلة بالتقدّم بالعمر، وأمراض الأطفال التي يمكن أن ترتبط الإصابة بها بوجود تلك الطفرات أيضاً.
ويضيف غو: "خلالَ عملية الإباضة (إنتاج البيضة) يحدث انخفاض كبير في عدد نسخ mtDNA، فيكونُ هذا الانخفاض وسيلةً للقضاء على الطفرات السيّئة، التي يمكن أن تنتقل من الأمّ إلى الطفل. إلّا أنّه بالرغم من ذلك يبقى احتمالُ انتقال بعض الطفرات الضارة إلى الجيل الثاني أمراً ممكناً. كما يمكن أن يتأثّر عدد mtDNA الممرض بالعوامل الفيزيولوجية والبيئة المحيطة بالأمّ، ويمكننا القول إنَّ إصابةَ الأمّ بأيّ نوع من الأمراض، كالالتهابات المتنوّعة أو مرض السكري أو السمنة، يمكن أن تشكّلَ عواملَ تقلّل من فعالية وكفاءة عملية التخلّص من الطفرات وتنظيفها.
ودراسة أثر مثل هذه العوامل موضوع بحثٍ مثيرٌ للاهتمام، ومن المرجّح أن يتمّ التركيز عليه مستقبلاً، إذْ يمكن أن يؤدّي إلى فهم مدى تأثير تلك العوامل على عملية نشوء وتطوّر التوحّد."
يقول يكين وانغ (Yiqin Wang) طالب الدراسات العليا في مختبر "غو، والمؤلّف الأوّل للورقة البحثية: "لمْ تقتصر نتائجنا على إظهار الصلة بين حدوث خلل في الحمض النووي الميتوكوندري وإمكانية الإصابة بالتوحّد فحسب، بل تمكّنا أيضاً –عبرَ تشخيص الأطفال المصابين بالتوحّد- من إظهار ارتباطٍ كبير بين وجود هذا النمط الممرض من الحمض النووي الميتوكوندري (الطفرات)، وحدوث إعاقات عقلية (صعوبة بالتفكير)، وكثيرٍ من العيوب العصبية أيضاً، خاصّةً تلك المتعلقة بعملية التطوّر والنموّ."
وتكمن أهمية هذه الدراسة بالاستفادة من النتائج التي أتت بها للوصول لطرق تشخيص وعلاج أفضل للأطفال المصابين بالتوحّد، كما يمكن الاستفادة منها أيضاً في تشخيص الإصابة بأنواع مرضية فرعية أخرى يمكن أن تندرج تحت مسمّى التوحّد، عادةً ما يكون سببها وجود هذه الطفرات الممرضة في الحمض النووي الميتوكوندري. ويرى "غو" أنّه إمكانيّة التدخّل العلاجي لهذه الحالات عبر استعادة الدور الوظيفي الفعّال للميتوكوندريا المصابة. ويهدف الفريق البحثي في المستقبل لدراسة مدى تأثير البيئة والتغذية وصحّة الأمّ على الحمض النووي الميتوكوندري المنتقل للأطفال، كما يسعى لتطوير أدواتٍ ذات كفاءة وفعالية عالية، بتكلفة أقلّ، يمكن توظيفها لإيجاد تسلسل الحمض النووي الميتوكوندري، الذي من شأنه تسهيل وتوسيع عملية البحث.
المصدر: هنا
الورقة البحثية: هنا