التعليم واللغات > اللغويات
مترجِمٌ للكائنات الفضائية؟ أيستطيع اللغويون فهم الكائنات الفضائية؟
تُصوّر الأفلام دائماً قدوم كائناتٍ فضائيةٍ ذات رأس متطاول وعينين جاحظتين تدمّر الأرض وتُصدر أصواتاً تصمّ الآذان. ولكن تخيل ولو لمرة وجود شخصٍ يُترجم ما يقوله الفضائيون ويصل لاتفاقٍ معهم بل ويكتشف أنهم مسالمونَ لطفاء. في هذا المقال نتابع الفرضيات العلمية المحتملة لمثل هذا الخيال الذي تحول إلى فيلم "Arrival" أو "الوصول".
تهبط عدة سفن فضائية غامضة في عدة أماكن حول الكرة الأرضية في فيلم الخيال العلمي "الوصول"، وتواجه الإنسانية مشكلة الاقتراب والتواصل مع الزوار القادمين من خارج الأرض.
ويروي الفيلم اجتماع الخبراء للبحث فيما يُمكن فعله، ومن ضمنهم عالمة لغوية تلعب دورها الممثلة آيمي آدامز. وعلى الرغم من تجذّر القصة في الخيال العلمي إلا أنها تُعالج تحديّاً واقعياً جداً، وهو كيفية التواصل مع شخص ما أو تعلم لغته دون وجود لغةٍ وسيطةٍ مشتركةٍ بينكما؟
يستند الفيلم إلى القصة القصيرة " قصة حياتك" للكاتب تيد شيانغ، وهي قصة تستغل وجود موضوع الخيال العلمي الشائع: اللغات الفضائية، لتُناقش حاجز التواصل الذي سيخلقه وجودهم، بالإضافة إلى الأساليب غير المألوفة التي قد يستعملونها للتواصل بخلاف اللغة. "التعرّض لموضوع اللغة والتواصل في الخيال العلمي أمرٌ تقليدي قديم" كما قال شيانغ لمجلة العلم الحي في رسالة إلكترونية.
تلعب عالمة اللغة دوراً أساسياً في سد الفجوة بين البشر والفضائيين في كلٍ من القصة والفيلم، وهو أمرٌ ليس مستغرباً من وجهة نظر دانيل إيفيريت الباحث اللغوي في جامعة بينتلي في ماساشوستس حيث يقول: "يستطيع اللغويون ممن يملكون خبرة ميدانية واسعة القيام بذلك، فهو في النهاية عملهم".
دراسة اللغة:
أمضى إيفيريت أكثر من 30 عاماً في تعلّم ودراسة لغة شعب البيراها في الأمازون البرازيلي، والتي لم يسبق توثيقها جيداً قبل بحثه. يُمكن اعتبار البيراها لغةً معزولة، فهي كاليتيم والفرد الأخير الناجي من عائلتها اللغوية، وتملك بعض الصفات غير المألوفة كافتقارها للأرقام والاتجاهات النسبية مثل "اليمين" و"اليسار"، وهي صفات عمل إيفيريت على فهمها خلال سنواتٍ من الدراسة.
ومثل لغته، كان شعب البيراها معزولاً وأحادي اللغة كليّاً، لذلك لم يُشكّل عدم معرفة إيفيريت باللغة البرتغالية أيّ عائق. فبدلاً من دراسة البيراها من خلال لغةٍ ثانيةٍ مشتركةٍ نفذ إيفيريت بحثه مستخدماً أسلوب الدراسة الميدانية أحادية اللغة.
يشرح إيفيريت أن الإشارة إلى شيءٍ قريبٍ مثل عودٍ خشبيٍّ والسؤال عن اسمه (حتى باللغة الإنكليزية) يُفهم عادةً بوضوح، ويمكن للَّغوي معرفة طريقه إلى التعبير عن الأفعال والعلاقات بين الأشياء. ويسجل اللغويون عادةً العبارات مع مراعاة الأصوات والقواعد والطريقة التي تجتمع فيها المعاني مشكلين بذلك نظرية عمل اللغة. كما يُساعد استخدام العبارات المتماثلة مع أشخاصٍ مختلفين على إلقاء الضوء على معانٍ محددة. ويشرح إيفيريت ذلك بالإشارة إلى كلمتي "عود" و "حجر"، فقد يقول شخصٌ ما "دع الحجر" أو "دع العود" وبذلك نستطيع معرفة معنى الجزء المتبدل من العبارة.
وفقاً لإيفيريت يستطيع اللغويون بالممارسة فهم الصفات الأساسية للغةٍ غير معروفةٍ بعد ساعةٍ أو ساعتين من التفاعل مع متحدثٍ بها، ولكن الحالات التي تتطلب دراسةً ميدانيةً أحادية اللغة دون وجود مساعدةٍ من لغةٍ مشتركةٍ لم تعد أمراً شائعاً كما كانت مئة عامٍ أو أكثر. ينظر العديد من اللغويون إلى هذه الدراسة كعملٍ مبتدعٍ، كما شرحها إيفيريت للجمهور حين التقى بمتحدثٍ للغةٍ معزولةٍ للمرة الأولى على المسرح.
الكلام مع الفضائيين:
نجد مثالاً للدراسة الأحادية في قصة شيانغ حيث ترتكز الطريقة التي تتبعها بطلة القصة الباحثة اللغوية على بحث كينيث بايك وهو أستاذ إيفيريت السابق. يُعلق شيانغ: "لقد أمضيت خمس سنواتٍ في قراءة الجوانب المختلفة لعلم اللغويات، كأنظمة الكتابة ولغة الإشارة الأمريكية والدراسة الميدانية."
ويتطلب الفهم العميق للغة الذي يتعدى الكلمات والبنية الأساسية معرفةً بثقافة اللغة، حيث يعلق إيفيريت على ذلك: "توجد جميع أنواع التفسيرات الثقافية حتى لأبسط العبارات، ولذلك يكون التحدث صعباً خاصةً لشخصين ينتميان إلى حضارتين ولغتين مختلفتين."
وتبدو هذه الصعوبة خطراً في المواقف الحساسة، عندما يتسبب سوء فهمٍ بسيطٍ بحربٍ نجميةٍ أو موت مستكشفٍ سواءً كان من البشر أو الفضائيين. ويعقّب إيفيريت بأن التعاون من كلا الجانبين هو أمرٌ مهمٌ للغاية وذلك لأن الاختلاط شيءٌ لا مفر منه.
أردف إيفيريت: " التفاهم متعلقٌ بالخطوة التالية التي تقوم بها وليس ما تقوم به حالياً، كيف تتصرف حيال الأخطاء وسوء الفهم؟" وعلى الرغم من الفشل المتكرر لأسلوب التجربة والخطأ، كان إيفيريت واثقاً دوماً بقدرته على فهم كيفية عمل اللغات في نهاية الأمر، وهو ما يرتبط بشيء عميق في الإنسان.
تضيف جيسي سينديكر -وهي عالمة نفسٍ في جامعة هارفرد وتدرس تطور اللغة عند الأطفال-: "نحن نعلم أنه بمقدور أي طفلٍ تعلم أي لغةٍ بشريةٍ، فكل طفلٍ لديه نوع من المقدرة الداخلية التي تمكنه من تعلم اللغة".
ويُقر اللغويون بتشارك البشر للبنية المعرفية أو اللغوية ذاتها، ولكن الجدل كبيرٌ في تحديد أي جوانب اللغة يمكن اعتبارها عالمية أو على الأقل فطرية بالنسبة للبشر وأيها لا. ساهمت لغة البيراها -على الرغم من صفاتها غير الاعتيادية- في تكوين فهمٍ حديثٍ لما يُمكن أن تكون عليه هذه القواسم المشتركة بين اللغات.
تقول سينديكر: "علينا أن نسأل أنفسنا: هل سنستطيع تعلّمَ لغة الفضائيين؟ وهل سيتمكنون من تعَلُّمِ لغتنا؟" معقبةً بأننا سنحصل على أجوبةٍ مختلفةٍ جداً من مختلف الناس.
وردَّاً على ذلك يقول شيانغ: "إن البشر غير قادرين على التواصل مع الأنواع الأخرى من الكائنات على الأرض، مما يجعل قدرتنا على التواصل مع الكائنات الحية خارج كوكب الأرض أمراً بعيد الاحتمال." وأضاف: "ومن ناحيةٍ أُخرى، هناك فرضيةٌ تقول إن وصول أي نوع من الأحياء إلى درجةٍ عاليةٍ من التطوّر التكنولوجي سيمكنهُ بالضرورة من إدراك بعض المفاهيم، وذلك سيقدمُ أساساً لدرجةٍ من التواصل المحدود على الأقل".
ويتفق كيرين رايس -وهو عالمٌ لغويٌ من جامعة تورنتو بكندا- مع الرأي القائل بأن التواصل الأساسي بين البشر والفضائيين سيكون ممكناً. ويقول: "قد لا يكون ذلك ممكناً في حالةٍ واحدةٍ وهي أن تختلف القواسم المشتركة للّغات عبر الزمان والمكان والمتحدثين إلخ.. اختلافاً جذرياً بحيث لا تُقدّم اللغة البشرية أي نقطة بدايةٍ لمثل هذا التواصل"
أساليب التواصل المختلفة:
على الرغم من وجود جذور تطورية عديدة لبنية اللغة البشرية فمن الممكن حسب رأي سينديكر وجود طريقةٍ واحدةٍ فقط لتعمل اللغات. وفي تلك الحال، من الممكن أن الفضائيين قد تطوروا لدرجة حل معضلة اللغة بذات الطريقة التي حلها بها البشر، الأمر الذي يجعل من التواصل بين الكواكب ممكناً.
ويتفق إيفيريت مع هذا الرأي قائلاً: "من المحتمل جداً وجود لغاتٍ ذاتِ أنظمة إنشاءٍ وأساليب لنقل المعاني لم نتخيلها قط، ولكني أعتقد أن ذلك مستبعدٌ إلى حدٍ ما". ولكن حتى لو استطاع الناس تحليل الأنماط في اللغة فإن طريقة إرسال الرسالة قد تُشكل تحدياً. يتواصل البشر بشكل رئيسي عبر البصر والصوت واللمس، بينما قد لا يتواصل الفضائيون كذلك. ويضيف إيفيريت: "من الصعب تخيُّلُ لغةٍ تعمل بالذوق، ولكن من يدري؟"
ويقول اللغويون أنه إذا ما كان للكائنات الفضائية أنظمة حسية وإدراكية مغايرة بشكل كبير لتلك التي لدى البشر فإن التقدم التكنولوجي قد يساهم في ردم هذه الفجوة بين الإدراك البشري وما يُصدره الفضائيون. فعلى سبيل المثال: إذا تحدث الفضائيون بتواتراتٍ لا يستطيع الناس سماعها يُمكن للبشر تفسير التسجيلات الصوتية على شكل أمواج مرئية.
وقد سألت سينديكر طلابها في امتحان لاختبار فهمهم للبُنى المشتركة والأسس التطورية للّغة البشرية: "إذا ما اكتشفنا نوعاً جديداً من الكائنات على كوكب المريخ وبدا لنا أنهم يستخدمون نظاماً رمزياً شديد التعقيد، من علينا أن نرسل لفهمهم وما احتمال نجاحه في هذه المهمة؟"
تُعقبُ سينديكر: "ليس هناك جواب واحد صحيح لهذا السؤال".