الفيزياء والفلك > فيزياء
في سابقةٍ هي الأولى من نوعها، إثارة ذرّة مادّة مضادّة بواسطة الليزر
المادّة المُضادّة هي مادّةٌ لعالم غريب، فهي عبارةٌ عن جسيماتٍ مطابقةٍ للجسيماتِ العاديّة إنّما بشحنةٍ مُعاكسة. وقد ألهمتِ المادّةُ المُضادّة العديدَ من كُتّاب الخيال العلميّ؛ إذ لم تكن فقط وقودَ "مركبة النّجوم: إنتربرايز"، وإنّما كانت القنبلةُ الّتي هدّدت مدينة الفاتيكان في رواية دان براون "الملائكة والشّياطين".
سببُ اختيار المادّة المضادّة كوقودٍ للمركبات الفضائيّة وكذخيرةٍ للمتفجّرات، هو أنّها تفنى مع المادّة العاديّة عند اتّحادهما فتَنتُج طاقّةٌ نقيّةٌ بأعلى مردودٍ معروفٍ في الفيزياء. ولهذا السّبب أيضاً، فإنّ الاحتفاظ بها في المختبر هو أمر صعبٌ جدًا، لأن أيّ اتّصال لها مع أيِّ جُزيءٍ من الهواء أو أيّ احتكاكٍ مع جدران الوعاء سيقضي على التّجربة.
لمَاذا لمْ تدمّر المادّة المُضادّة الكونَ عند بدايةِ الزّمن؟
ينصّ النّموذج المعياريّ لفيزياء الجسيمات، على وجوب تساوي كميّتي المادّة والمادّة المُضادّة الناتجتين عن الانفجار الكبير، واتّحادهما في مزيجٍ يتحوّل إلى أشعّة غاما. لكنّ كميّة المادّة النّاتجة كانت أكبرُ قليلاً من كميّة المادّة المُضادّة، ولا نعرف السّبب بعد. لذا فالبحثُ عن خصائصَ إضافيّةٍ للمادّة المُضادّة – عدا عن شحنتها المُعاكسة – قد يقود إلى دليلٍ هامٍّ حول سبب الفرقِ بين كميتي المادّتين.
يقول جيفري هانغست؛ وهو فيزيائيٌّ في جامعة أورهَس في الدانمارك، ومدير مشروع فيزياء ليزر الهيدروجين المُضادّ في سيرن: "نعتقد بأن تماسُك الكون بالشكل الحالي، هو نتيجة سلوك المادّة والمادّة المُضادّة السّلوك ذاته. ما نفعله هنا هو البحث عن فروقٍ بسيطةٍ في الخواص الّتي نعلمُها جيّداً، علّها تُظهرُ فيزياء جديدةٍ"
حصر الفيزيائيّون أنفسَهم لعقودٍ من الزّمن بأُسلوب عزل المادّة المُضادّة لدراستها، كما حصل مع البوزيترون (المادّة المُضادّة للإلكترون)، والّذي يتوّلد نتيجةَ اصطدام الأشعّةِ الكونيّة بالطّبقة العلويّة للغلاف الجويّ. لكنّ خلال عشرين سنةٍ خلت، أتقنَ العلماء في سيرن فنّ توليدِ ذرّاتٍ مضادّةٍ والاحتفاظ بها، الأمرُ الّذي أتاح لهم دراستها على مستوٍ جديدٍ كليّاً.
وقد استطاع فيزيائيّو سيرن إنتاج الهيدروجين المضادّ تحديداً؛ وهو عبارة عن بوزيترون يدور حول بروتونٍ مُضادّ، وفي العام 2011 استطاعوا احتجاز الهيدروجين المُضادّ لمدّة 1000 ثانية، وهو الرّقم القياسي العالميّ الحالي. وفي العام 2014 قاس الفيزيائيّون شحنة الهيدروجين المُضادّ ووجدوا أنّها تساوي الصّفر؛ تماماً كما في الهيدروجين العادي، لكن تلك كانت البدايةُ فقط.
أجرى الفريق ذاته الآن قياساً على الهيدروجين المُضادّ باستخدام جهازٍ خاصٍّ ابتكروه لِسبرِ ذرّة الهيدروجينٍ المُضادّ باستخدام الليزر. استخدم الفريقُ حقولاً مغناطيسيّةً لاحتجاز عددٍ من ذرّات الهيدروجين المُضادّ ضمن اسطوانةٍ صغيرةٍ، ثمّ مررّوا أشعّة ليزرٍ فوق بنفسجيّ ضمنها ( طول موجته 243 نانومتر، وهو ضمن المجال الموجيّ من الأشعّة الكونيّة الّتي يحمينا غلافنا الجويّ منها). عندما يُسلّط الطّول الموجيّ ذاته على ذرّة الهيدروجين العاديّة، فإنّ إلكترونها يقفزُ من مداره إلى المدار الأعلى، وفي هذه الحالة المُثارةِ يدور الإلكترون على مسافةٍ أبعدَ قليلاً عن البروتون. ثبّت الفيزيائيّون الطّاقة اللازمة لهذه القفزة في ذرّة الهيدروجين العاديّة وتبيّن لهم أنّها توافقٌ بضعة أجزاءٍ من 10^15 هرتز (دقّة هذا القياس هي تماماً كدقّة قياس المسافة بين الأرض والشّمس مُقدّرةً بالميلليمتر)
السّؤال الّذي طرحه أحمدي، وجيفري وبقيّة الفريق هو فيما إذا كان التّواتر ذاته سيلزَمُ لإثارة بوزيترون ذرّة الهيدروجين المُضادّ، وقد دلّت قياساتهم على ذلك فعلاً، بدقّةِ جزأين من 10 مليارات. هذا يعني وفقاً لقول الفريق أنّ القوانين الّتي تحكم تفاعلَ المادّة مع الضّوء، والقوانين الّتي تحكمُ قوى التّرابط في الذّرات العاديّة، تبقى هي ذاتها في المادّة المُضادّة. لكنّها ليست النّهاية على حدّ تعبير جيفري: "إنّها البداية فقط، دقّة قياساتنا الحاليّة بحجم ملعب كرة قدم بينما نحتاج لدقّة قياس بحجم إحدى أعشابه. لا يزال هنالك الكثيرُ من العمل المطلوب من أجل إظهارِ أيّ فرقٍ بين الهيدروجين والهيدروجين المُضادّ".
تجدرُ الإشارة إلى أن التجربة الّتي قام بها الفريقُ الدولي، والتي نشرتها مجلةُ الطبيعة Nature ،هي تتويجٌ لمئات الملايين من الدولارات، وعقدين من الأبحاث في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (سيرن).
المصدر: هنا